توجيه أم ضرب من العبث؟

مقالات رأي و تحليلات الأحد ٢٢/ديسمبر/٢٠١٩ ١١:٣٥ ص
توجيه أم ضرب من العبث؟

محمد بن محفوظ العارضي

ليس خفيّاً أن هناك مكامن ضعف على امتداد منظومة العالم الاقتصادية، فالبنوك المركزية على مستوى العالم حالياً توجّه سياساتها النقدية نحو اعتماد أسعار فائدة متدنية أو سلبية، وخفض أسعار الفائدة ما هو إلا مؤشر على الحاجة لاستثمارات حقيقية تحفز النمو.

ولكن هل تغيير أسعار الفائدة ومحاولات توجيه سوق الائتمان كافية للنهوض بالأنشطة الاقتصادية على مستوى العالم؟ قد يبدو الأمر وكأن دور البنوك المركزية محكماً وواضحاً، ولكنه في الحقيقة ينطوي على العديد من التعقيدات والعوامل المتداخلة التي كثيراً ما تجعل دوره يبدو وكأنه ضرب من العبث اليائس لتوجيه سوق الائتمان.

يعمل البنك المركزي كجهاز إداري حكومي، ويُعرف أيضاً باسم «بنك البنوك»، لأن البنوك التجارية، لا يمكنها الاستغناء عنه في تسوية المديونيات فيما بينها، والحصول على قروض من الدولة لمباشرة أعمالها، والاحتفاظ بجزء من أموالها كودائع نظراً لتعاملها برؤوس أموال ضخمة. كما أنه السلطة الوحيدة المخولة بإصدار العملات الرسمية الوطنية، التي يتم تداولها في المجتمع، والتحكم في المعروض النقدي.

وتكمن أهميته في التحكم في السياسة النقدية للدولة باستخدام أدوات عدة يوظفها بحسب استراتيجيات الدولة وأهدافها ونموذجها الاقتصادي، ومن أبرز تلك الأدوات هو تغيير أسعار الفائدة المضافة للقروض الممنوحة على مستوى الدولة، مما يساعد على التأثير في أنشطة الاقتراض وتوجيهها، سواء بالزيادة أو النقصان. فعلى سبيل المثال: تحصل البنوك التجارية، التي أودعت أموالها لدى البنك المركزي، على فائدة سنوية على إيداعها، بطبيعة الحال. وفي حالات تراجع الإنتاج، قد ترى البنوك المركزية حاجة لإخراج رؤوس أموال البنوك التجارية وضخها في الأسواق بدلاً من بقائها كودائع دون مساهمة في الاقتصاد، فتقوم بخفض أسعار الفائدة بحيث تصبح الودائع البنكية أقل جاذبية لأصحاب رؤوس الأموال ويكون الاستثمار في مشاريع منتجة ومربحة هو الخيار المتاح لهم.

وأحياناً يصل الأمر إلى فرض أسعار فائدة سلبية، أي أنه عندما يتجاوز مبلغ الإيداع عتبة محددة، على صاحب الوديعة أن يدفع الفائدة مقابل الاحتفاظ برؤوس المال الخاصة به لدى البنك، ونظراً لضخامة رؤوس الأموال المتوفرة وصعوبة الاحتفاظ بها، يكون إخراج الودائع والاستثمار خياراً أفضل. أما في حالات التضخم وانخفاض قيمة العملة، تعتبر البنوك المركزية زيادة الفائدة على القروض حلاً لامتصاص السيولة النقدية.

هنا يبرز سؤال مهم: في حالة تراجع النمو الاقتصادي واعتماد البنك المركزي لأسعار فائدة سلبية، مثلاً، ستؤدي تلك السياسة إلى ضخ المزيد من النقد في الأسواق، ولكن ماذا لو كان سبب التراجع الاقتصادي هو هزال الإنتاجية؟ والجميع يعرف أن ضعف الإنتاجية هو السبب الرئيس لحالات التضخم وارتفاع الأسعار وكثرة السيولة النقدية في الدولة، وعلاج التضخم من منظور البنك المركزي هو زيادة الفائدة لامتصاص السيولة.

هذا التناقض يؤكد أمرين، أولهما أن دور البنك المركزي وحده ليس كافياً على الإطلاق، وثانيهما أن دوره يجب أن ينحصر في حالات الطوارئ القصوى. والحق يقال، هذا التناقض ناتج عن الدور المحدود للبنك المركزي والذي ينأى بنفسه عن تضييق الخناق على السوق.

هناك من النماذج الاقتصادية ما تؤمن بحق التجار في مساحة كبيرة من الحرية لتحقيق الأرباح، باعتبار أن هذا الأسلوب سيشجع العمل والإنتاج، وأن التحكم الكامل في الأسواق والمساواة بين من يستثمر ومن لا يستثمر، ومن يجتهد ومن لا يجتهد، يؤدي إلى التكاسل وتراجع الإنتاجية على نحو قد لا يتناسب مع احتياجات السوق. ولكنها حقاً ليست مسألة نموذج أو توجه اقتصادي، بل مسألة «إصلاح سوق الائتمان»، وهذا النوع من الإصلاحات لا خلاف عليه. ما يعاني منه عالم اليوم حقاً هو ضعف سياسات الإقراض، بالإضافة إلى الفقاعات الاقتصادية والعوامل السياسة الدخيلة.

كانت الأزمة المالية العالمية السابقة في 2007-2008، نتيجة لسياسات الإقراض الخاطئة؛ كيانات وأشخاص غير قادرين على السداد حصلوا على قروضهم بطريقة ما، ويبني الديّانة معاملاتهم المالية على افتراض أنهم سيسددون، ولكن هذا لا يتحقق لهم، ما يؤدي في النهاية إلى إعلان الإفلاس على نطاق واسع.

واليوم نشهد أيضاً توجهاً قوياً نحو الاستخدام غير الرشيد للتطورات التكنولوجية. لقد زاد إنتاج بعض السلع عن الحجم المطلوب نتيجة لتطورات الصناعة، بما يخلق فجوة كبيرة بين العرض والطلب، وصعوداً وهبوطاً مفاجئاً في أسعار السلع، ما يطرح تساؤلات حول إمكانية وجود قاعدة إنتاجية متينة قادرة على توليد الدخل المنتظم وخدمة احتياجات المجتمع كما يجب. وتنتمي أسعار العملات الرقمية كذلك إلى هذا النوع من عدم التوازن.

ثم الحروب التجارية وصعود نزعة الحمائية الدولية ودعوات الشعبوية، التي يكون لاختلاف التوجهات الاقتصادية دور فيها في العديد من الأحيان. لقد نجمت تلك التطورات عن ذاك التفكير الذي يفترض أن ما من دولة يمكنها أن تنجح دون أن تفشل غيرها. ولكن في الواقع، هناك نوعين من التنافس الاقتصادي: ما يبني مستقبل الجميع، وما يهدمه، ولا ثالث لهذين النوعين.

عند تراجع النمو الاقتصادي العالمي، تتوجه أنظار الجميع نحو البنوك المركزية ودورها في توجيه سوق الائتمان، سعياً وراء التحكم في الأسعار وتحسن الإنتاجية، ولكن ماذا عن الإمكانات الحقيقية للسوق؟

فلننظر إلى جوهر الاقتصاد والتجارة والشؤون المالية بوجه عام؛ الهدف الحقيقي لكل هذا هو تلبية الاحتياجات المادية للمجتمع. ما فائدة تقليل أو زيادة أنشطة الإقراض، إذا كانت سياسة الإقراض في الأصل خاطئة وما من سبيل للسداد وخدمة المجتمع؟ وما فائدة الإنتاج إذا كان فائضاً عن احتياجات المجتمع؟ وما فائدة المضاربة إذا كانت قيمة المنتج، بالنسبة للمستهلك، لا تناسب السعر المطروح؟ واختصاراً لجميع تلك الأسئلة وما شابهها: ما فائدة السماح بهذا الجشع؟ وليته سيأتي بثماره للطامعين في الربح السريع وحدهم، ولكنه في الحقيقة سيترك آثاره السلبية على الجميع بلا استثناء.

عند تباطؤ النمو، لا يتعلق الأمر بأسعار الفائدة بقدر ما يتعلق بمعايير الإقراض المفروضة على مستوى الدول، لذا كفانا اتكالاً على البنوك المركزية كلما تباطأ نمو الاقتصاد العالمي. استخدام صلاحيات البنوك المركزية في تغيير أسعار الفائدة الملحقة بأنشطة الإقراض داخل الدولة يجب أن يكون للضرورة القصوى، وفقط في حال النفاد التام لخيارات تحفيز الاقتصاد المتاحة أمام الحكومات.

بينما نحرص على حرية التجارة وتشجيع العمل والإنتاج، لا بد من معايير وضوابط لا يجوز المساس بها لتوجيه الاقتصاد نحو الاستدامة من أجل صالح الجميع. فلنخطط على المدى الطويل ونركز على احتياجات الأسواق الحقيقية؛ هذا هو السبيل لإصلاح المنظومة الاقتصادية العالمية.

رئيس مجلس الإدارة التنفيذي في إنفستكورب، رئيس مجلس إدارة بنك صحار