الصحفي.. راثياً ومرثياً

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ٠٥/أبريل/٢٠١٦ ٠٠:٥٠ ص
الصحفي.. راثياً ومرثياً

محمد بن سيف الرحبي
alrahby@gmail.com
www.facebook.com/msrahby

قبل أكثر من عشرين عاماً كتب أحد الزملاء مقالاً تأبينياً بعد رحيل زميل مشترك.. سألته يومها إن كان سيكتب عن رحيلي أم أنه سيبخل عليّ «بكلام جميل» لن أقرأه حتما؟!

ومرّت السنوات تترى.. وكتب لنا أن نعيشها، متدافعة، كاندفاعنا للحياة، رغم كل ما نشهده من رحيل أصدقاء ورفاق، ورغم كل ما نشاهده من مجازر ترحيل بالجملة، كما تأتي بالفجائع الشاشات الصغيرة، وهي تكبر يوما بعد يوما، كما يكبر حجم الموت أمامنا.

ومع كل رحيل تندفع أرواحنا للكتابة عن ذلك المرتحل، كأنما اكتشفنا فجأة أنه لم يطل المكوث بيننا، وأنه غادرنا، كما هي المقادير، دون أن نتمكن من تلك الوداعية الأخيرة، أو أننا ندرك أننا بقينا لنكتب، ريثما يبقى بعدنا أحد ليكتب عن رحيلنا.

كأنما هي نشوة الروح تتصاعد نحو الحنين الموجع، مع ذلك المتدثر بالموت تبقي لنا أشياء لا تحصى من تفاصيله، رقم هاتفه على هاتفنا، تواصلنا على مواقع التواصل، صور تختبئ في ألبوم ما عدنا نجد الوقت لاكتشاف مقتنياتها المتكاثرة في زمن التصوير الرقمي، والصور الافتراضية..

قدر الصحفي أن يكون راثيا، كأنه يقول للموت تريّث لأكتب عن صاحبي الذي سافر إليك، ويغدو الصحفي المغادر مرثيا، بحروفه التي تبقى بعده موزعة على أرشيف صحيفته، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، وهي تتضاءل يوما بعد آخر، حيث لا ذاكرة لها حينما تكتشف أن من منحها دفء حروفه جفّ حبر الحياة في أوردته.

كنت أودّ الكتابة عن أحمد الحسني.. صحفي ترجّل عن صهوة فرس الصحافة والحياة، وكانت حياته مشروعا صحفيا، والصحافة مشروع حياته.. لكن ماذا يمكن أن يكتب بعد حروف الرائع حمود بن سالم السيابي، أستاذنا جميعا، لكلماته وهج ولأسلوبه شعاع ينفذ إلى القلوب تسابق العيون في قراءته؟ وماذا بعد «بكائيّة» الصديق محمد الحضرمي، رفاق المرحوم أحمد في مشوار الصحافة داخل جريدة عمان؟

صحفيان يرثيان صحفياً، وبثراء مكتسب بعمق السنوات الطوال التي ربطتنا جميعا داخل مؤسسة كانت لنا البيت أكثر من بيوتنا، ومن فيها الأسرة حيث نمضي معهم وقتا لا نقضيه مع أسرنا، نبقى «حتى مطلع الفجر» بانتظار النسخة الأولى من الصحيفة قبل أن نغادر، ولكل يوم ظروفه من التطورات الصحفية، خبر مباغت، أو عطل طارئ، وفي كليهما ترقب ساعات من الليل نكون فيه أقرب إلى بعضنا البعض، نتشارك لقمة منتصف الليل، وكوب شاي، و»سوالف» نكسر بها قلق الترقب.

وقد غادرنا أحمد الحسني، الاسم الذي اعتدناه، والصحفي الذي يخجلك بلطفه وأخلاقه، وقد عشنا التجربة مشتركة نحو 21 عاما، بقي محاربا في الحقل الصحفي، مميزا بتحقيقاته، دون أن يتذكره أحد، بتكريم يليق بعطائه، فهل كثير عليه أن ينال ما تعودناه في بلادنا: أن يكرّم المرء بعد موته؟!

رحمك الله أيها العزيز.. كنت القلم الذي لا يستكين داخل المكاتب منتظرا، بل العابر للجبال والأودية تكتب عن مواطنين هناك.. فهنئيا لك دعوات الرحمة تنالها ممن أحبوك واحترموا فيك حيوية المحارب، حتى الرمق الأخير منه.