السقوط المدوي

الحدث الثلاثاء ١٠/ديسمبر/٢٠١٩ ١٢:٥٥ م
السقوط المدوي

لاهاي-أ ف ب

بعدما كانت رمزاً للديموقراطية، تجد مستشارة الدولة البورمية أونغ سان سو تشي نفسها في مقدمة المواجهة للدفاع عن بلادها ضد اتهامات «الإبادة» الموجهة إليها بحق أقلية الروهينغا، وذلك بعد قرارها المفاجئ بالحضور شخصياً إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي.

ورفعت في جميع أنحاء بورما لافتات كبيرة تحمل صورا لأونغ سان سو تشي وكتب عليها «نحن إلى جانبك»، فيما تستعد الحائزة جائزة نوبل للسلام للمواجهة في محكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة حول أزمة الروهينغا.

ويقوم مناصرو سو تشي بدعمها عبر طباعة شعارات مؤيدة لها على قمصان، وتنظيم تجمعات وحجز رحلات إلى لاهاي لإظهار تأييدهم لها.

وعززت الأحزاب السياسية في البلاد وكذلك بعض المجموعات المتمردة المسلحة جهودها لإبراز الدعم للمستشارة، في بلد لا تحظى فيه أقلية الروهينغا بالكثير من التعاطف ويعتبر أبناؤها مهاجرون غير شرعيين.

لكن في الخارج وخصوصا في الغرب والعالم الإسلامي، ينظر لـ»سيدة رانغون» التي اعتبرت في يوم من الأيام رمزاً للسلام مثل الماهاتما غاندي ونلسون مانديلا، بأنها مدافعة عن منظمة عسكرية دموية تريد القضاء على المسلمين الروهينغا في بورما. ولذلك، حرمت سو تشي من العديد من الامتيازات التي منحت لها، كما سحبت منها جنسيتها الكندية.

وإن كان مشهد دفاع سو تشي عن بلادها أمام محكمة دولية سيلقى أصداء إيجابية محلياً، فقد يشكل ضربة قاضية لما تبقى من سمعتها الدولية.

وأوضح ديفيد ماتيسون المتخصص في حقوق الإنسان والمستقر في رانغون لوكالة فرانس برس «إن لم تستغل هذه الزيارة سوى لتحدي العالم ومواصلة الدفاع عما لا يمكن تبريره، فسيزداد المأزق تعقيداً».

اليوم

تسلط الأضواء اعتبارا من اليوم الثلاثاء على الحائزة جائزة نوبل للسلام أونغ سان سو تشي حين تمثل شخصيا أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي لتتولى بنفسها الدفاع عن بورما بوجه اتهامات «الإبادة» الموجهة إليها بحق أقلية الروهينغا.

وحضور مستشارة الدولة في بورما بنفسها أمام القضاء الدولي للدفاع عن بلادها المتهمة بارتكاب أسوأ الفظاعات، هو بحد ذاته بادرة غير اعتيادية إطلاقا.

وخلافا لما قام به قادة آخرون في الماضي، فإن أونغ سان سو تشي لا تنتقل إلى لاهاي حيث مقر أعلى هيئة قضائية تابعة للأمم المتحدة، لمجرد الحضور، بل أعلنت أنها ستتولى بنفسها الدفاع عن «مصالح» بورما.

وقال أستاذ القانون الدولي في جامعة تيلبورغ بهولندا فيليم فان غينوغتن «أمر استثنائي للغاية أن يذهب قادة كبار إلى محكمة العدل الدولية للدفاع بأنفسهم عن بلادهم» وليس فقط «لجذب انتباه وسائل الإعلام».

ملف بالغ الحساسية

وتعقد محكمة العدل الدولية التي أنشئت عام 1946 لتسوية الخلافات بين الدول الأعضاء، أولى جلساتها الثلاثاء والخميس للنظر في التجاوزات المرتكبة بحق الأقلية المسلمة في بورما، فاتحة بذلك ملفا بالغ الحساسية.

وتولي المعارضة والسجينة السابقة بنفسها الدفاع عن بورما قد يكون سيفا ذو حدين. وحذرت الأستاذة المساعدة للقانون الدولي في جامعة لايدن سيسيلي روز في حديث لوكالة فرانس برس بأن «هذا غير مسبوق، لكنه ينطوي أيضا على مجازفة».

وأشارت إلى أن أونغ سان سو تشي المتخرجة من جامعة أوكسفورد إنما ليس في القانون «لا مؤهلات قانونية لديها إطلاقا وستكون تائهة تماما أمام المحكمة».

«مسؤولة شخصيا»

وأثار الإعلان عن حضور الزعيمة الفعلية للحكومة البورمية التي ستخاطب القضاة الأربعاء، صدمة بين المراقبين الدوليين الشديدي الانتقاد لها بالأساس، وبعضهم يتهمها حتى بعدم الدفاع عن الروهينغا.

وقال الأستاذ المساعد في القانون الدولي في كلية ترينيتي في دبلن مايك بيكر «ما قد يبدو غير اعتيادي في حضور أونغ سان سو تشي على رأس وفد بورما، هو أنها تُعتبر مسؤولة شخصيا إلى حد ما عن الوقائع المنسوبة» لبورما.

ولم تخلص محكمة العدل الدولية سوى مرة واحدة حتى الآن إلى وقوع إبادة، حين دانت قتل ثمانية آلاف رجل وفتى من مسلمي البوسنة بأيدي قوات صرب البوسنة في سريبرينيتسا في تموز/يوليو 1995.

اعتراف خجول

باسم 57 دولة مسلمةً، تدعو غامبيا محكمة العدل الدولية في 10 ديسمبر إلى الإعلان عن تدابير موقتة بهدف منع حصول أية إبادة جديدة في بورما.

وتؤكد غامبيا، البلد الصغير ذو الغالبية المسلمة في غرب إفريقيا، أن بورما انتهكت اتفاقية الأمم المتحدة حول الإبادات بقمعها الدموي لأقلية الروهينغا قبل عامين.

وفرّ نحو 740 ألف من الروهينغا إلى مخيمات آخذة بالتوسع في بنغلادش، حاملين معهم شهادات عن عمليات القتل والاغتصاب والحرائق المفتعلة التي طالتهم، وهي انتهاكات اعتبر محققون في الأمم المتحدة أنها ترقى لمستوى إبادة.

وتؤكد بورما أن تلك العمليات كانت تستهدف مقاتلين وتصرّ على أن الادعاءات بوقوع انتهاكات هي موضوع تحقيق في البلاد لدى لجان معنية. لكن المجموعات المدافعة عن حقوق الإنسان تؤكد أن تلك اللجان لا تقوم سوى بتلميع صورة الانتهاكات.

واتهم فريق الأمم المتحدة كذلك سو تشي وحكومتها بالتواطؤ في العنف، ما يمثل سقوطاً مدوياً لشخصية اعتبرت يوماً أيقونة في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان وقضت 15 عاماً قيد الإقامة الجبرية في ظل الحكم العسكري السابق في البلاد.

لكنها رفضت بشكل قاطع الانتقادات الموجهة ضد الجيش البورمي، ومن بينها التقرير الدامغ الصادر عن الأمم المتحدة، بحجة أن العالم الخارجي لا يفهم مدى تعقيد الوضع الداخلي.

والتنازل الوحيد الذي قدمته سو تشي هو اعترافها الخجول خلال المنتدى الاقتصادي الدولي العام الماضي بأنه «كان يمكن إدارة الوضع بشكل أفضل»، غير أن ذلك لم يضع حدا للانتقادات.

سياسة أو مبادئ

ينقسم المراقبون إزاء الأسباب التي دفعت سو تشي لتضع نفسها تحت الأضواء.

ويرى البعض أن حماية الجيش في هذه القضية قد يسمح للزعيمة البورمية بالحصول على تنازلات متعلقة بالدستور الذي وضعه الحكام العسكريون للبلاد.

وبحسب المحلل السياسي مونغ مونغ سو «سيكون هناك مفاوضات وتنازلات أكثر بين الحكومة والجيش».

لكن يرى آخرون ان هذه الخطوة ليست سوى مناورة لاستقطاب الناخبين قبل الانتخابات الرئاسية العام المقبل، والتي يتوقع أن يفوز بها حزب سو تشي «الرابطة الوطنية من أجل الديموقراطية».

وأعلن خين يي من حزب «الاتحاد للتضامن والتنمية» المعارض والمرتبط بالجيش لوكالة فرانس برس «غالبية الأحزاب السياسية تعتقد أن (حزب سو تشي) سوف يستفيد من الانتخابات».

لكن المؤرخ والكاتب البورمي ثانت ميينت أو رأى أن الأمر ليس متعلقاً فقط بالحسابات السياسية. وأعلن خلال مناسبة في بانكوك «أعتقد أنها تكبت في داخلها غضباً كبيراً إزاء ما تعتبره موقفاً غير عادل من العالم الخارجي. وأعتقد أنها في الواقع تريد أن تطرح هذه الحجة أمام المحكمة».

وأضاف «هي تؤمن بصدق أنها الأفضل للقيام بهذا الدور».

ولم تجرؤ سوى ثلاث جماعات مسلحة متمردة هي «جيش التحالف الديموقراطي في ميانمار» و»جيش التحرير الوطني في تانغ» و»جيش أراكان»، على الإعراب عن تأييدها للاتهامات بوقوع إبادة.

لكن هذه الجماعات لم تستخدم تعبير «روهينغا»، بل وصفتهم في بيان باسم «البنغاليين»، وهو تعبير يعد مسيئاً، لأنه يوحي بأن هؤلاء المسلمين متحدرون من بنغلادش.

ورأى من جهته آي لوين من المركز الإسلامي في رانغون أن سو تشي تقوم بما يجب القيام به عبر تحملها شخصياً المسؤولية والذهاب إلى لاهاي، حيث سيكشف تماماً عن حجم الانتهاكات المرتكبة. وأضاف «الأمر لا يتعلق بالربح والخسارة بل بكشف الحقيقة ورفع الظلم».