سعدون بن حسين الحمداني
يعتبر فن أو مهارة التفاوض من أهم عناصر حياتنا اليومية سواء الشخصية منها أم الرسمية وهو من أهم سمات ديمومة الحياة وملازم لنا في جميع الأوقات والأماكن والأزمان ؛ فالإنسان أصلا هو كائن مفاوض لما يملك من قدرات ومهارات على مختلف المستويات لتحقيق أفضل النتائج المرسومة والمخطط لها.
و تتفاخر المدارس الدبلوماسية الأجنبية حول طبيعة بروتوكول وإتيكيت فن التفاوض، سواء مع كبار الشخصيات والوفود الرسمية أم غير الرسمية ، والفردية منها أم من وفد أم تجمع أشخاص بمناسبة خاصة أم عامة، حيث درست المدارس الدبلوماسية تأثير التفاوض ونتائجه وتأثيره على نفسية الأشخاص والمجتمعات والدول وسلوكهم، وأن المفاوض البارع هو الذي يعتمد على التشاور والمشورة مع زملائه قبل التفاوض .
ومن أهم صفات التفاوض الناجح للوصول إلى أفضل النتائج ، التخطيط العلمي لحل المشكلات وتحقيق الأهداف وجمع المعلومات ذات العلاقة ، وتحليلها ووضع تصورٍ للحلول الممكنة وتقويمها وتقديم المقترحات التي من شأنها أن تسهم في إيجاد جو من التعاون ، ويعتمد التَّفاوض الناجح على الإقناع ؛ فهناك تكتيكات واستراتيجيات وآراء وأهداف علينا الانتباه عليها قبل البدء بالتفاوض، وبالتالي فإن النجاح يعتمد على اللباقة وحسن الحوار ، ولأنه مستند على معلومات مهمة فهو يحتاج إلى الفراسة وسرعة البديهة وحسن الكلام والمنطق والإقناع والتَّلاعب بالكلمات، بما يتناسب مع الموقف، والتشاور مع المختصين لإيضاح الموقف من التفاوض.
والكثيرون منا قد يقعون في مواقف صعبة إذا لم يمتلكوا مهارات التَّفاوض، و من أهداف التفاوض الناجح هو التشاور قبل المباحثات والقضاء على الفردية والدكتاتورية والارتجال، وإذا تحققت المشاورة على وجهها الصحيح قبل التفاوض فإن لها من الآثار الإيجابية ما لا يخفى ،إضافة إلى تجنيب الجهة المسؤولة آثار المواقف والقرارات الفردية.
وقد تحدَّث القرآن الكريم عن هذا الموضوع، وتناوله بشيءٍ من التفصيل والعُمق ، قال تعالى : «فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا « 233 سورة البقرة ، هذه الآية الكريمة تعطينا درسًا في كيفية التفاوض والوصول إلى أفضل النتائج بعد التشاور والتباحث بالأمر مهما كانت المشكلة، وقال تعالى «وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله «( 159 آل عمران ) ، وهي آية كريمة واضحة على الوصول بأعلى النتائج في التفاوض بعد اعتماد مبدأ المشورة والمناقشة مع الفريق المفاوض ، والعزيمة تعني الثقة بالمعلومات وبالأهداف الواجب الوصول لها ثم النقطة الثالثة وهي التوكل على الله لأن الإيمان أعلى درجات قوة المفاوض.
و قد أثبت الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم، براعته الفائقة في فن التفاوض ، ونذكر هنا على سبيل المثال، صلح الحديبية ، وقدرته العالية في التَّفاوض مع أهل قريش، حيث تمكَّن بذكائه من حلِّ الكثير من المشكلات أثناء كتابة شروط التَّفاوض معهم .
و بدلا من البحث عن نظريات التفاوض من مختلف المدارس الأجنبية يجدر بِنَا الاستفادة والاقتداء برسولنا الكريم ، ومن هذه المهارات: الصبر/ الاستماع إلى الطرف الآخر بكل احترام وتقدير/ الفراسة وفهم منطق المقابل/ عدم النبش فيما مضى/ البدء بحسن النية/ تقبل النصيحة من الشركاء / انتهاز الفرص وأخيرًا التنازل في بعض النقاط لا يعني الخسارة( مبدأ خطوة إلى الوراء من أجل خطوتين إلى الأمام) وهو أحد بنود فن التفاوض في المدارس الدبلوماسية، ومثال ذلك التفاوض النبوي للتفاوض على شروط الحديبية فالرسول لم يتنازل عن هدف التفاوض الاستراتيجي بأداء مناسك العمرة، بل تنازل عن رتوش وصغائر دون أن يُغير الثوابت، فلم يرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أية مشكلة في كتابة « بسمك اللهم » بدلاً من « بسم الله الرحمن الرحيم » كما أنه لم يجد أية مشكلة في كتابة « محمد بن عبدالله » بدلاً من « محمد رسول الله » ؛ لأن الثوابت باقية، حيث ركز على جوهر التفاوض وأهدافه الاستراتيجية وجعل الطرف الآخر يشعر بأنه شريك له وليس نداً.
و في الختام .. فإن فن التفاوض أو الإقناع يبدأ من العائلة (من الأب والأم والأولاد ) والزوج والزوجة وأغلب مشاكل الطلاق التي تقع كل يوم لهي دليل على عدم وجود فن التفاوض والإقناع بين الاثنين لتصبح أصغر مشكلة هي الأكبرالتي تهدد وتدمر كيان العائلة ؛ لذلك علينا جميعا الاقتداء بذكاء وأخلاق الرسول الكريم التي هي مستمدة من القرآن الكريم بدلًا من الركض خلف المدارس الأجنبية في تطبيق مبادئ التفاوض والتي هي أصلا مستوحاة من القرآن الكريم وسيرة النبي محمد والصحابة وآل بيته الكرام .
دبلوماسي سابق