كارلو راتي
البندقية: غمرت أحد أسوأ الفيضانات التي شهدها تاريخ البندقية بعض المواقع الثقافية الشهيرة في المدينة التاريخية، بما في ذلك كنيسة القديس مارك في ساحة سان ماركو. وهذه هي المرة السادسة فقط التي تتعرض فيها البازيليك للفيضانات خلال 1200 سنة، ولكنها المرة الرابعة خلال العقدين الأخيرين، والمرة الثانية في أقل من 400 يوم. وبهذا المعدل، يمكن لزخرفة البندقية الهشة، التي زينت بها كل من كالي، وكامبي، و بلازي، والمنقوشة على الرواسب الغارقة، أن تختفي في غضون عقود. ولكن ماذا عن سكان هذه المواقع؟
لقد استخدم الرومان القدماء كلمتين لوصف المدن: الحواضر، وهي كلمة ترمز إلى البنايات والبنية الأساسية، واستخدمت أيضا كلمة سيفيتاس، أو بمعنى آخر، مواطنون نشطاء وملتزمون. واليوم، يشعر العالم بالقلق إزاء حواضر البندقية المبللة والمتضررة، والتي من المؤكد أنها معرضة إلى حد كبير حتى للارتفاعات الطفيفة في مستوى سطح البحر، مثل تلك الناجمة عن تغير المناخ. ولكنه أخفق إلى حد كبير في إدراك مدى تفكك ساكنة البندقية.
وبدأ عدد سكان البندقية يتقلص منذ عقود. واليوم، يوجد في البندقية ثلث سكانها قبل 50 عامًا. ولكن هذا التراجع هو مجرد علامة من علامات مرض يزداد سوءا بوتيرة سريعة: الترويج المتهور لسياحة واسعة النطاق، ونقص الاستثمار في رأس المال البشري.
ولو لم يبدأ الزعماء السياسيون في البندقية في تحويل الموارد بعيداً عن التعليم العالي، والابتكار في الثمانينيات من القرن الماضي، لبدت البندقية على البحر الأدرياتيكي وكأنها كامبريدج. ولكن كان ينظر إلى السياحة على أنها طريق أسرع للنمو. لذلك، بمساعدة الحكومة، ارتفع عدد الزوار ارتفاعا مطردا: إذ في عام 2017، استقبلت المدينة التي يبلغ عدد سكانها 260.000 أكثر من 36 مليون سائح أجنبي.
ومع فرار سكان البندقية من حشود الناس، تدهور المجتمع المدني في البندقية، وأصبح السباق السياسي راسخًا. ويفضل قادة البلديات تقديم شكوى حول نقاط الضعف في المدينة، بدلاً من اتخاذ إجراءات فعالة للتصدي لها. كما أخفقت الحكومة الوطنية الإيطالية باستمرار في استخدام سلطتها في المدينة استخداما بناءًا. وساهمت هذه الاتجاهات في عدم كفاية المراقبة البيئية التي تركت الحواضر عرضة للضرر.
نعم، لقد انضمت البندقية إلى مشروع حاجز الفيضانات الذي بلغت قيمته 5.5 مليار يورو (6 مليارات دولار)، ويسمى وحدة الكهروميكانيكية التجريبية. ولكن المشروع الذي أطلق عام 1984- عندما كانت البندقية تغرق بالفعل- وافتتح في عام 2003، كان من المفترض أن يكتمل في عام 2011. ولكن المشروع لم يكتمل بعد. وحتى إذا اكتمل المشروع في موعده المحدد حاليا في عام 2021، فلن يكون كافياً لحماية مدينة البندقية، ولن يكون كذلك أي مشروع بناء آخر. وبينما من الواضح أن الاستثمار في البنية التحتية أمر حاسم- وخاصة للتكيف مع تغير المناخ- يجب على المسؤولين في البندقية أن ينظروا إلى ما وراء الحواضر لاستعادة سيفيتاس، إذا أرادوا تفادي زوالها الذي يتوقعه الكثيرون.
وتتمثل الخطوة الأولى في سحب مدينة البندقية من ولاية الحكومة الإيطالية، التي أدت إخفاقاتها المستمرة إلى تراجع المدينة في العقود الأخيرة. وهذا ليس مطلبا ضيقا لإحياء جمهورية سان ماركو. إنها دعوة لنوع جديد من البناء السياسي الخارجي: «مدينة منفتحة» ترحب بكل من يريد حقًا أن يستقر بها بصفته مواطنا كامل الحقوق، وليس مشاركا فيما وصفها الروائي الأمريكي دون دييلو بمسيرة الغباء» السياحية.
وستعمل سيرينيسيما الجديدة والمنفتحة (كما كانت تسمى جمهورية البندقية في العصور الوسطى)، على وجه التحديد، لاجتذاب مواطنين لديهم قدرات، والتزام، والذين هم على استعداد للمساعدة في حماية الحواضر، وإعادة بناءها. وسيشمل ذلك المبتكرين الذين لديهم خطط أعمال موثوق بها (ومسانديهم الماليين)، ومهندسين يبحثون عن التكيف مع تغير المناخ، ومهنيين مثل الأطباء أو المحامين، والطلاب الذين يرغبون في تكريس بضع سنوات للمساعدة في ترميم قصر بلازوس الرائع في البندقية. وهكذا، ستصبح البندقية أرضًا لاختبار نموذج حضري مبتكر، يستند إلى عقد اجتماعي جديد يتلاءم مع ما وصفه عالم الاجتماع مانويل كاستيلس بأنه «مساحة التدفقات» العالمية.
وقد يبدو هذا اقتراحًا جذريًا، لكن سبق له مثيل. إذ في منتصف القرن الرابع عشر، انخفض عدد سكان البندقية بنسبة 60٪، بسبب تفشي الطاعون الدبلي. وفتحت المدينة أبوابها للأجانب، ومنحت الجنسية لأي شخص يخطط للبقاء على المدى الطويل. و كان القادمون الجدد في حاجة فقط لاحتضان الخصائص الرئيسية لـ»الفينيسية»، بما في ذلك الرغبة في العمل. ولا يوجد سبب يبرر عدم نجاعة استراتيجية مماثلة اليوم.
وفي الواقع، بفضل الأدوات الرقمية، سيكون من الأسهل مقارنة مع أي وقت مضى قياس إشراك المجتمعات المدنية، بما في ذلك الوقت الذي تقضيه في المدينة- العديد من العقارات في البندقية مملوكة لغير المقيمين، ولا تستخدم إلا بضعة أيام في السنة– والمساهمات الملموسة، والتي يمكن أن تصبح مصدرا للفخر في وسائل التواصل الاجتماعي. ومن شأن فرض ضريبة كبيرة على مالكي العقارات غير المقيمين- ذوي الثراء الفاحش- أن يساعد أيضًا في دعم المجتمع المحلي.
ومع ارتفاع منسوب مياه البحر وغرق البندقية، يجب على المدينة اتخاذ إجراءات صارمة لاستعادة حواضرها، وحمايتها. ولكن مثل هذه الجهود لن تعني شيئًا دون وجود مواطنين يتمتعون بالرفاهية والالتزام. ولإنقاذ البندقية، يجب علينا أولاً إنقاذ أبناءها- وقبل كل شيء إنقاذهم من أنفسهم.
مدير Senseable City Lab في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا