نصيحة أهل عُمان لليمن قبل قرون من الزمن

مقالات رأي و تحليلات الخميس ٢٤/أكتوبر/٢٠١٩ ١١:٣٧ ص
نصيحة أهل عُمان لليمن قبل قرون من الزمن

نصر البوسعيدي

منذ مئات السنين واليمن في قلب أهل عُمان من كانوا أول الداعمين لتأسيس أول إمامة يمنية ديمقراطية تواجه بثورة رجالها الدولة الأموية سنة 129هـ وبقيادة الإمام طالب الحق عبدالله بن يحيى الكندي!

بعدما أسس ابن عُمان جابر بن زيد وتلميذه أبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة في البصرة وبالخفاء ذلك الفكر السياسي الثوري المناهض للدولة الأموية من أجل إقامة ديمقراطية في الحكم مبني على الشورى عن طريق أهل الحل والعقد لإنتخاب حاكم البلاد وإمامها وتحديدا في عُمان واليمن، أرسل أبوعبيـــــدة قادته للتـــــغيير ومنهم العماني أبو حمزة الشاري المختار بن عوف إلى اليمن من أجل مساندة عبدالله بن يحيى الكندي في إحياء الثورة ضد الأمويين، وحكم البلاد على النهج الذي يؤمنون به.

وبالفعل تم إعلان الثورة في حضرموت وتنصيب عبدالله الكندي ( طالب الحق) حاكما على اليمن عام 129هـ، بعدما تم تنصيبه بإشراف أبي حمزة الشاري هذا القائد العماني الذي احتل مكة والمدينة في تقدمهم لإسقاط الخلافة الأموية بعدما طهروا اليمن من ولاتهم، فوصل الجيش الثائر إلى الحجاز وفي مكة خطب أبو حمزة خطبته المعروفة والتي أخبر فيها الناس بنيتهم في إسقاط الظلم والتحرر من قبضة الخلفاء، ولكنهم لم يجدوا ترحيبا لدعوتهم فكانت نهايته وأصحابه ومعه الإمام طالب الحق القتل علي يد الجيش الأموي بعد عدة معارك دامية في نهاية أيام خلافتهم.

حينما انهارت الدولة الأموية بيد العباسيين بقيادة السفاح والذي أعلن الخلافة العباسية وبدأ يواجه نفس خصوم أقرانه والمؤمنين بالفكر العماني في التحرر من الحكم الوراثي، استطاع أهل عُمان إعلان ديمقراطية الحكم بانتخاب الإمام الجلندى بن مسعود في عُمان عام 132هـ، لتصبح حضرموت وأهلها جزءا من هذا النظام، رغم مقتل الجلندى بن مسعود فيما بعد بيد الجيش العباسي بعد معارك عنيفة في جلفار( رأس الخيمة ) عام 134هـ، وارتكاب مجازر مروعة بحق أهل عُمان بيد خازم بن خزيمة، وبحق أتباعهم كذلك من الحضارمة في اليمن عن طريق القائد العباسي معن بن زائدة.

في كل الأحوال ثار أهل عُمان مرة أخرى ضد العباسيين، ليختاروا حاكمهم شورى منذ عام 177هـ وما تلاها وأهل اليمن كذلك يتناغمون مع الحراك العماني حاملين نفس فكرهم متبعين نصائحهم ومشورة كبار علمائهم، لينتخبوا كذلك حكامهم معلنين الخروج عن الدولة العباسية، لتصبح عُمان لأهل اليمن ملاذا ومرجعا يعودون إليها وقت اختلافهم وخاصة في حضرموت المركز الأساسي لحراكهم.

بعد زمن وصل في عُمان الصلت بن مالك الخروصي للحكم بعد انتخابه إماما على البلاد عام 237هـ بعد أن أصبح كبار العلماء يثقون في سلطته ومنهم الفقيه محمد بن محبوب الرحيلي والذي كان أفقه علماء زمانه والمستشار الأول للإمام، بل كان هو المرجع الأساسي لشؤون وتنظيم الحكم في البلاد وكأنه المفتي الأول لأهل عُمان واليمن (حضرموت) على السواء.

ولن ينسى التاريخ نجدة الإمام الصلت لجزيرة سقطرى اليمنية من غدر النصارى أو الأحباش فيها بعدما قتلوا واليه العماني واستباحوا حرمات نسائها من استنجدن به حتى استطاع تحريرها من قبضة الانقلابيين وترسيخ السلام والأمان لأهلها كون عُمان هي المرجع الأساس للجزيرة وأهل حضرموت التي كانت تحت حكم ابن اليمن الإمام أحمد بن سليمان الحضرمي.

واجه هذا الإمام الحضرمي العديد من المشاكل والخلافات التي وقعت بين اليمنيين أنفسهم، فآلمت هذه الأحداث العمانيين كثيرا خاصة وأن الإمام الصلت ومن معه من العلماء كانوا يولون جل اهتمامهم الإشراف على هذا الحكم المبني على التحرر من قبضة الخلافة العباسية ويجزلون لذلك كل المساعدات والنصائح والفتوى بشكل متواصل. وعلى كل حال أرسل حاكم عُمان الإمام الصلت بن مالك الخروصي ومستشاره الشيخ محمد بن محبوب الرحيلي رسالة نصح إليهم يوجهونهم لإنهاء الفتنة وتجنب إراقة الدماء والكف عن التعرض لبعضهم وإنهاء تمرد الفئة الباغية من خلال هذه الرسالة التي سأحاول أن أنقلها لكم مختصرة من مخطوط بيان الشرع خشية الإطالة، فقد بدأ الصلت ومستشاره بالسلام على إمام حضرموت وتذكيره بتقوى الله :

«من الإمام الصلت بن مالك المبتلي بأمر عُمان ومحمد بن محبوب وما قبلهما من المسلمين إلى أحمد بن سليمان المبتلي بأمور أهل حضرموت ، سلام عليكم ... ، نوصيكم بتقوى الله ولزوم طاعته بما فرض والتوسل إليه بما استفرض قبل أن لات حين مناص ولا يقدر على خلاص ولا ينفع إلا الإخلاص ... فأعدوا لخوف الله ولا تعتذروا بـ عل وعسى وسوف، فإن كثرة الفكر وشدة الحذر يدلان على أن صفو الدنيا كدر، وحلوها سكر، وهجرها ظفر، والآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا...».

وبعد ذلك تناول الصلت موضوع الفتنة العظيمة التي حلت بأهل اليمن والدماء البريئة التي زهقت والتي طالت كذلك الأطفال فكتب يناصحهم ويذكرهم بأخوة الإسلام بما يلي :

« قد ورد علينا من أخباركم وحلول الفتنة بين أظهركم حتى تفرق الشمل وترف العقل وطفئ العدل وقطع رحم الإسلام وكفر الأعلام وند الناس بالفتن إلى دعوة الجاهلية وأظهروا العصبية والحمية، فقتلوا عليها النفوس واحرقوا الذمار ونسوا الجنة والنار ونهبوا الأموال وقتلوا الأطفال واختاروا على الهدى الضلال، واختاروا على الأمان الأغلال والنكال ونارا لا يفك منها الأسير ولا يجبر فيها الكسير ولا يرحم فيها الكهل الكبير ولا الشاب النظير... فالله الله ثم الله الله يا أهل القرآن ويا اخوان الإيمان، ويا أهل المساجد والمشاهد والصلوات والزكوات والحج والعمرات.... ويا معاشر الربانيين والأحبار ويا سماع الرغبة وذي الابصار في دينكم ...»إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير» ... أنصروا الله يا معاشر المسلمين ينصركم الله ويثبت أقدامكم...».

ثم أشار الصلت لإمام حضرموت وأهلها مدى تأثره بحرقة وحزن وتأثر أهل عُمان بما يحدث في اليمن من فتن وينصح الجميع بالإلتفات نحو حاكمهم لمجابهة الظلم فقال:

« يا أيها الإمام ويا معاشر المسلمين قد أبكيتم منا العيون، وحركتم منا السكون وتلاحمت علينا فيكم الغموم وجمت الهموم إذ كان حزب الشيطان أسرع إلى إجابته من حزب الرحمن...، فهدمت من الإسلام حصونه وفقئت عيونه وأنتم قعود أو قيام أو رقود وإنا لله وإنا إليه راجعون...

يا معاشر المسلمين من أهل حضرموت ويا أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بايعتم إمامكم وأعطيتموه عهدكم وميثاقكم على السمع والطاعة له ما أطاع الله ورسوله...، فما عذركم عند الله ولم تجاهدوا في سبيل الله ولم تدفعوا عن حرم الله ولم تكونوا مع من بغى عليهم حتى ينصركم الله أو يتوفاكم إلى جنته قال الله تعالى : «والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون» ... فأعلموا أنه قد لزم الإمام الذب عن الحريم ومجاهدة الكافر الأثيم ونصرة المظلوم، ولزمكم ما لزم الإمام لأنكم بايعتموه طائعين غير مكرهين...، وأعلم أيها الإمام ومن معك من الإخوان أن الذي ضاع من رعيتك أشد من جمل يضيع على شاطئ الفرات كما قال عمر رحمه الله، وسفك دم مسلم واحد وأخذ ماله وإخافة أمنه وحرق سكنه وانتهاك حرمه أشد من تعطيل زكاة سنة من جميع الرعية وهي العقال الذي قال فيها أبو بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم لو منعوني عقالا يعني زكاة سنة من أموالهم ثم لم أجد مساعدا على جهادهم لجاهدتهم بنفسي حتى آخذ منهم أو ألحق بالله، فاحتذي أيها الإمام أمثال أهل الهدى...».

وهنا وجه إمام عُمان وحاكمها الصلت للإمام أحمد الحضرمي عتبه الشديد لتقاعسه في نصرة المستضعفين في هذه الفتنة وبيعه لسلاحه وامتناعه من الذهاب لصلاة الجمعة مستسلما للظالمين فقال له:

«وقد بلغنا أنك بعت خيل مال الله وسلاحهم وفرقت أثمان ذلك مع ما كان عندكم من طعام مال الله على الفقراء وكان ذلك برأي من أشار عليك مع تركك صلاة الجمعة، فأبكى ذلك عيوننا وأنكى قلوبنا إذا انهزمتم بغير قتال وتركتم أمر الله ليس له وال ولا هيبة لأهله ولا إجلال وخلعت عنك جمال ذلك السربال، وأوهنت ركن أهل الإيمان وأشمت أهل الشنان....فما كنا نحب لك أن تكسر جناحك ولا تبيع خيلك وسلاحك ولا تفرق مال الله على الفقراء، ولكن أن تبذله للنصر أو تعده لغد سترا وعذرا فإن إقامة دين الله يوما واحدا أفضل من إنفاق ملء الأرض ذهبا صدقة للفقراء، ولا نرى لك أن تترك صلاة الجمعات دون الجهاد... فالله الله يا أهل سورة القرآن وآل عمران وطه والفرقان وحم وسبحان والمثاني وقلب القرآن لما تآلفتم وتحالفتم وتضافرتم وتناصرتم على إحياء هذه الدعوة وإعزاز هذه الكلمة التي أنارت أنوارها واعتدلت آثارها وذل فجارها وتناصح أبرارها...

وحقنت بها الدماء ... وانتصف بها الذليل من العزيز والوضيع من الشريف والعبد من المولى والنساء من الرجال، فلا تهملوها ضياعا وتمكنوا منها سباعا وتكونوا بعدها أحزابا وأشياعا...، وقد قيل إذا أقبلت الفتنة لم يبصرها إلا العلماء، وإذا أدبرت أبصرها العوام...».

ثم أشار له الإمام إلى الكيفية لعلاج الفتنة وتهدئة الأمور والحزم في بعضها واعتقد من وجهة نظري بأن هذه التعليمات هي الأهم في الرسالة لأختم بها ما جاء فيها حيث قال :

« فسر أيها الإمام بمن أجابك واجعل على كل خمسين منهم قائدا مسلما حازما، وأمرهم بالسمع والطاعة في طاعة الله وابسط للناس بشرك ورفقك وألن لهم جانبك واخفض لهم جناحك وواسهم بنفسك واحتمل زلتهم وأقل عثرتهم واستر عورتهم وأكثر مشاورتهم... ثم ادخل القرى بنفسك وبمن اتبعك وواس الناس بنفسك وادعهم إلى الحق والأمان وأعلمهم أنك غير محارب إلا من نصب راية ضلال وجمع على أهل الفتنة والعصبية فإن امتنعوا من الحق وأرادوا الحرب والاجتماع على دعوة الجاهلية بسفك الدماء وتحريق المنازل يريدون أن تكون كلمتهم العزيزة وكلمة الحق ذليلة فأولئك انبذ لهم الحرب على سواء إن الله لا يحب الخائنين...،

ومن أراد المسير معك من المحدثين من أحد الفريقين فلا تبعدهم كل الإبعاد ولا تأذن لهم بالسير عندك ولا تيأسهم من عفوك وحسن نظرك، وقل لهم أن يلزموا منازلهم وقراهم متفرقين غير مجتمعين...، ثم أرسل إلى رؤساء الفريقين ومساندتهم والمطاعين فيهم فرادى فكلمهم أنت ومن معك كلاما لينا قويا أن يهدموا ما قد مضى ويطأوا على تلك الدماء ويجعلوها تحت أقدامهم، والأموال والمنازل إلى أن يسكن الناس ويأمنوا وينسى ما في قلوبهم وتجعل المدة بينهم إلى سنة وتعلمهم أنا كتبنا إليك في ذلك أن تكتب إلى إخوانك من أهل عُمان وتشرح لهم الأمر وتستشيرهم في تلك الدماء والأموال والمنازل وتكتب إليهم بما قامت به البينة عندك ثم يرجع إليك جوابهم إن شاء الله...، فإذا أجابوا إلى ذلك قبلت ذلك منهم وقبلت من دخل عسكرك من الفريقين من بعد توبتهم واستغفارهم من فتنتهم وما كان منهم ووليت القرى ولاة من صالحي الفريقين ممن لم يدخل في الفتنة وملأت القرى من الرجال ورجعت إلى عساكرك وخلفت في هذه القرى التي تخاف الفتن من ناحيتهم قوادا ورجالا كثيرا إن شاء الله، وإن كرهوا هذا الصلح أو كرهه أحد من الفريقين وأرادوا معاودة الفتنة ليقضوا أوطارهم ويأخذوا أثارهم فلا تبرح من موضعك راصدا لهم وكائدا لهم عن رعيتك إن شاء الله...

أدام الله ستركم وأعز نصركم وقوى قلوبكم وطهر عيوبكم ومكن بكم الإسلام ووصل بكم الأرحام وجلى بكم الأظلام وشد الله أزركم ووضع وزركم، أنار الله بكم الشرع وأطفأ بكم البدع...
وكتب محمد بن محبوب وهو يسلم عليكم وهذا كتابه وكلامه عنا وعنه إليكم قبل الله ذلك منا ومنه ورزقكم قبول ذلك والمحافظة عليه وبلغنا وإياكم إلى جزيل الثواب وحسن المآب ووهب لنا فصل الخطاب».

ومثلما أسلفت حاولت هنا أن أنقل لكم أجزاء مختصرة من هذه الرسالة والتي تبين مدى عمق العلاقات السياسية والفكرية بين عُمان واليمن منذ قرون طويلة، وتشكلت ملامحها بوضوح أكثر في الحراك السياسي الثوري ضد الخلافة الأموية والعباسية، وكأن عُمان كانت الأخ الأكبر لمن يحكم حضرموت على النهج العماني الذي أسسه ابن نزوى أبو الشعثاء جابر بن زيد ومن معه.

المرجع:

- بيان الشرع ج69- ج70، محمد بن إبراهيم الكندي، طبعة عام 1993م، وزارة التراث والثقافة – سلطنة عُمان.

- الإمام طالب الحق الكندي، محمد بن سالم الخوالدي «بحث تخرج بمعهد العلوم الشرعية».