كيف تتجاوز الأرجنتين أزمتها؟

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ١٥/أكتوبر/٢٠١٩ ١٢:٢١ م
كيف تتجاوز الأرجنتين أزمتها؟

كمال ديرفيس

سيباستيان شتراوس

تقول مزحة تعبر بطريقة مؤسفة على ما يقع في الأرجنتين، إذا غادرتَ الأرجنتين وعُدت بعد 20 يومًا، فستجد أن كل شيء مختلف، ولكن إذا عدت بعد 20 عامًا، فستجد أن كل شيء هو نفسه. فهل سيتمكن الرئيس المقبل للبلاد، ألبرتو فرنانديز، أخيرًا، من محو السطر الأخير من المزحة؟

وفقا للبنك الدولي، فقد عاشت الأرجنتين، منذ عام 1950، سنة واحدة من الركود كل ثلاث سنوات. وقد يشكل الحدث الائتماني الأخير في البلاد تخلفه عن سداد ديونه التاسع- وهو الثالث منذ عام 2000. وهذا أمر مثير للقلق، لأنه منذ قرن واحد فقط، كانت الأرجنتين واحدة من أغنى دول العالم من حيث نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي.

ولتفسير عدم الاستقرار المزمن في الأرجنتين وعدم السيولة العرضية، يجب على المرء أن ينظر إلى ما وراء القادة ذوي طابع شخصي، والصدمات الخارجية المؤقتة، وأخطاء سياسية معينة. ويكمن الجواب في نظام سياسي أخفق في ترسيخ المؤسسات، التي يمكن أن تقيد سياسات المدى القصير، وترسخ التنمية الطويلة الأجل، بعد أن تذبذب كثيرًا بين الدكتاتورية العسكرية، والأغلبية الشعوبية.

صحيح أن الرئيس الحالي، موريسيو ماكري، ورث اقتصادا في حالة يرثى لها. إذ في عام 2016، كانت الأرجنتين تعاني من عجز كبير، واحتياطي مستنفذ من العملات الأجنبية، والوصول المحدود إلى أسواق رأس المال الدولية، وتضخم مرتفع ومستمر. وخوفًا من أن يؤدي «العلاج بالصدمة» إلى رد فعل شعبي عنيف، راهن ماكري، على التدرجية، وأجَّل الإصلاحات الهيكلية، معتمدا على بيئة خارجية داعمة. وللأسف، لقد أخفق في ذلك.
ولكن مشاكل الأرجنتين الحالية ليست برمتها نتاجًا لميراث الاقتصاد الكلي المرهق، والحظ السيئ. إذ منذ البداية، اتبعت حكومة ماكري العديد من أهداف السياسة بأدوات قليلة للغاية، لا سيما مع وجود المؤسسات الضعيفة في البلاد، والثقافة السياسية المعروفة بافتقارها للصبر.

وفضلا عن ذلك، واجهت الحكومة الجديدة قيودًا هيكلية معروفة- الهيمنة المالية، والدولرة المالية، والخوف من التعويم، واستمرار التضخم، وعدم تحمل الديون، وضعف أسواق رأس المال المحلية، وقاعدة تصدير صغيرة تهيمن عليها السلع. لذلك كان من المستحيل منذ البداية أن تقوم إدارة ماكري برفع الضوابط على العملة ورأس المال، و تحقيق التوحيد المالي، والاستدامة الخارجية، وتقليص نسبة التضخم، والنمو الشامل، كل ذلك في آن واحد، بل كان ينبغي أن تتخلى عن إحدى هذه المسؤوليات.

ومع ذلك، حاول ماكري، مدفوعًا بالتفاؤل المفرط، وبدعم من هيجان المستثمر أولاً، وصندوق النقد الدولي لاحقًا، الحصول على كل شيء. ونتيجة لذلك، كانت السياسة غير متسقة وفصامية- بالكاد كانت وصفة للتغيير البنيوي الدائم. والآن، فإن العواقب الانتخابية التي كان يخشى ماكري حدوثها في حال اتخذ الخيارات الصعبة قد تحققت، والسبب بالضبط هو أنه لم يفعل ذلك. ومع أن الأرجنتين مجتمع مستقطب للغاية، وضعيف الثقة، فضلا عن أن صنع السياسة الاقتصادية فيه هذا المجتمع، اتخذت طابعا سياسيا قويا على مدى التاريخ، فإن المدى القصير ليس ظاهرة أرجنتينية فريدة. ونادرٌ هو السياسي الذي هو على استعداد لتحمل تكاليف قصيرة الأجل، من أجل فوائد طويلة الأجل.

ولكن يجب أن ينهار المدى القصير الثابت في النهاية، تحت وطأة ثقل الضرورة الاقتصادية. إذ في آخر المطاف، انفصلت بلدان أخرى عن ماضيها بعد أن وصلت إلى نقطة تغلبت فيها دائرة التغيير على المصالح الشخصية المعارضة لها.

لذلك يجب أن يجد الأرجنتينيون طريقة للتغلب على عدم ثقتهم في المؤسسات– وفي بعضهم البعض- وتوليد إجماع دائم بشأن نهج لصنع السياسات طويل الأمد. إن الوصول الكامل إلى البيرونية- وهي علامة شعوبية مثيرة للخلاف بشكل عميق، ولكنها دائمة، وتمزج بين عناصر القومية، ومعاداة النخبة والنزعة التجارية- ستجعل هذه المهمة أكثر صعوبة.

ولكن الوضع الراهن غير مقبول. وحتى إذا كانت شرائح الإنقاذ المالية لصندوق النقد الدولي الأخرى توفر فترة راحة مؤقتة، أو حتى إذا تحسنت الظروف الخارجية، دون إجراء إصلاحات هيكلية شاملة، فمن المرجح أن تشبه الأزمة الأرجنتينية المقبلة الأزمة الأخيرة إلى حد كبير.

ويجب أن تتضمن أجندة السياسة على المدى المتوسط إصلاحات في مجالات التشغيل، والضرائب، والمعاشات التقاعدية، وتقليص الإنفاق العام المهدر. ولكن هذه التدابير وحدها لن تكون كافية. ومن أجل الحد بشكل دائم من مَواطن الضعف الهيكلية في الأرجنتين- أي نقص الدولار المزمن، والاعتماد على الاقتراض الخارجي- هناك حاجة إلى مجموعتين أخريين من السياسات.

أولاً، تحتاج الأرجنتين إلى استراتيجية صناعية طويلة الأجل لتطوير مصادر إضافية لإيرادات الصادرات. وسيتطلب ذلك تنويع الاقتصاد عن طريق وضع رهانات استراتيجية على القطاعات التي يحتمل أن تتمتع فيها الأرجنتين بميزة نسبية (مثل الآلات الصناعية والمنتجات الكيماوية)، والتخلص التدريجي من الإعانات المقدمة للصناعات المحمية غير التنافسية.

وقد يمَكَّن التنويع الاستراتيجي، إلى جانب التخفيضات في الحواجز الجمركية وغير الجمركية، وزيادة الاستثمار في البنية الأساسية العامة، الأرجنتين من دخول سلاسل القيمة العالمية. لكن مثل هذا النهج لن ينجح حتى يتم القضاء على السعي وراء الريع، والرعاية السياسية، والمحسوبية الراسخة التي ابتُليت بها مؤسسات البلاد منذ ثلاثينيات القرن الفائت. وطالما أن هناك هيكل الحوافز الذي نتج عن التصنيع القديم لاستبدال الواردات، ستوضع سياسات جديدة عن طريق المصالح الخاصة.

ثانياً، تحتاج الأرجنتين إلى إصلاحات مؤسسية لتعزيز دور البيزو كمُخزن آمن وموثوق للقيمة، وتقليل الدولرة، وترويض التضخم، وتخفيف مواطن الضعف في الميزانية العمومية. لذلك يجب على الحكومة المقبلة أن تثبت مصداقيتها عن طريق الالتزام باستقرار الأسعار، الذي يفرضه بنك مركزي مستقل حقًا، ويمكنه أن يقدم عوائدا معتدلة ولكن إيجابية باستمرار لمدخرات البيزو. وبالاقتران مع تطوير أدوات الادخار بالعملة المحلية، ينبغي أن تساعد المعدلات الإيجابية في تعميق أسواق رأس المال المحلية، وتوسيع النظام المصرفي.

ويجب على صناع السياسات أيضًا وضع قيود على اقتراض الحكومات من العملات الأجنبية، وتأسيس مجلس مالي مستقل، والتأكد من أن سياسات إدارة تدفق رأس المال المعقولة، تقلل من تأثير «الأموال الساخنة» المضاربة.

ولحسن حظ الأرجنتين هو أنه نظرا لأنها وصلت للتو إلى الحضيض، فقد تنجح في المستقبل.

وسيبدأ فرنانديز، المرشح المفضل للفوز في الانتخابات الرئاسية المقررة في 27 أكتوبر، فترة رئاسته بما يكفي من رأس المال السياسي لسن بعض الإصلاحات، التي أثبت ماكري أنه غير قادر أو غير راغب في تنفيذها. وبدعم من زميلته التي تميل إلى اليسار، الرئيسة السابقة كريستينا فرنانديز دي كيرشنر، سيكون أقل عرضة لاتهامات بأنه «نيوليبرالي»- وهي تهمة خطيرة في كثير من أمريكا اللاتينية. وفضلا عن ذلك ، يمكن أن يحتفظ فرنانديز بدعم الناخبين اليساريين، وذوي الدخل المنخفض عن طريق وضع أجندة اجتماعية تقدمية، وضمان أن حزمة الإصلاحات التي سنها تحمي أكثر الفئات ضعفا.

وإذا أراد فرنانديز أن ينتخب من جديد في عام 2023، فإنه سيحتاج إلى اقتصاد متنام، وسيتطلب منه هذا استثمار رأس المال السياسي. إذا، بدلاً من أن تكون هذه الأزمة مجرد سبب للحزن، قد تكون هي اللحظة التي يصبح فيها ما هو مستحيل سياسيًا، أمرًا لا مفر منه. ولن يستغرق الأمر 20 عامًا لمعرفة ذلك.

كمال ديرفيس:و وزير الشؤون الاقتصادية الأسبق في تركيا، والمدير السابق لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي

سيباستيان شتراوس: كبير محللي البحوث ومنسق الارتباطات الاستراتيجية في معهد بروكينجز