أزمة حوكمة البنوك المركزية

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ١٥/أكتوبر/٢٠١٩ ١٢:١٦ م
أزمة حوكمة البنوك المركزية

لوكريزيا رايكلين

تختلف العلاقة بين السلطات النقدية والحكومات في جوانب هامة بين الولايات المتحدة ومنطقة اليورو. حيث تنخرط الولايات المتحدة باستمرار في نمط تقليدي يميل فيه أعضاء الحكومة إلى تفضيل السياسات المالية التوسعية والأوضاع النقدية المتساهلة، واضعين نصب أعينهم الفوز بالدورة الانتخابية التالية، في حين يسعى مجلس الاحتياطي الفيدرالي، مدفوعا بقلقه من الضغوط السياسية، إلى التأكيد على استقلاليته. وإذا أصبحت استقلالية بنك الاحتياطي الفيدرالي موضع شك، فسوف يتعرض استقرار الاقتصاد الكلي المحلي - وبالتالي العالمي - للخطر.

من ناحية أخرى، فإن النمط في منطقة اليورو على العكس من ذلك. ففي عموم الأمر، يتردد صانعو السياسة المالية حيال انتهاج سياسة التحفيز حتى في مواجهة التباطؤ الاقتصادي (كما هي الحال اليوم)، والبنك المركزي الأوروبي هو الذي ينتهي به الأمر إلى محاولة الضغط على الآخرين لاتخاذ إجراءات. في الواقع، لا توجد سابقة تاريخية لهذا الانقلاب في الأدوار بين الحكومات وصانعي السياسات النقدية. فقد ظهر كنتيجة غير متوقعة لتصميم منطقة اليورو، وهو ينذر الآن بتشكيل تحد مستمر لاستقرار الكتلة.

على نطاق أوسع، تعاني كل من الولايات المتحدة ومنطقة اليورو من أعراض أزمة حوكمة اقتصادية بدأت تتراكم منذ أكثر من 30 عاما. في الولايات المتحدة، تُمنح استقلالية مجلس الاحتياطي الفيدرالي من جانب الكونجرس ويُمكن سحبها من حيث المبدأ، في حين أن استقلالية البنك المركزي الأوروبي محمية بموجب معاهدة ماستريخت. لكن هذا الأمر لا يبعث على الارتياح من منظور الأوروبيين، لأن التوتر بين السلطات النقدية الأوروبية وحكومات الدول الأعضاء قد يؤدي في النهاية إلى تقويض توافق الآراء بشأن العملة الموحدة ذاتها.

وباعتباره بنكا مركزيا لا ينتمي لأي جنسية داخل كتلة تحتفظ فيها الحكومات الوطنية بسيادتها المالية، لا يمتلك البنك المركزي الأوروبي سوى القليل من الأدوات التي تمكنه من الضغط على الحكومات لانتهاج سياسات اقتصادية تتفق مع هدف التضخم الذي يحدده. فعلى أقصى تقدير، من الممكن أن يرسل البنك المركزي الأوروبي رسالة مفادها أنه عندما تكون أسعار الفائدة صفرية أو سلبية، تكون السياسة المالية أكثر أهمية من السياسة النقدية لتعزيز الطلب الكلي أو التأثير على التضخم.

لكن من غير المحتمل أن تستجيب الدول ذات السيادة لهذه الرسالة ما لم تكن متوافقة مع أهدافها الوطنية، التي لا بد أن تكون لها الأسبقية على أولويات منطقة اليورو. والنتيجة هي أن البنك المركزي الأوروبي سيظل المؤسسة الاقتصادية التي يُلجأ إليها كملاذ أخير. ففي خلال أزمة اليورو منذ ما يقرب من عقد من الزمن، اضطر إلى تحمل المسؤولية النهائية عن الاستقرار المالي، بغض النظر عما إذا كانت المشكلة تتعلق بالسيولة أو الملاءة المالية. والآن، سيكون مسؤولا في نهاية المطاف عن تحقيق استقرار ناتج منطقة اليورو، بغض النظر عما تقوم به الحكومات الوطنية (أو تفشل في القيام به).

من حيث المبدأ، ثمة الكثير مما يمكن تحقيقه من خلال السياسة النقدية داخل منطقة اليورو. ولكن من الناحية العملية، يستلزم الأمر توسيع صلاحيات البنك المركزي الأوروبي بطرق إشكالية ومثيرة للجدال إذا ما سعى لتحقيق المزيد من الإنجازات. فسرعان ما يبلغ نطاق صلاحيات البنك في وضع السياسات سقفا سياسيا، إن لم يكن سقفا اقتصاديا.

ولأن الأولوية القصوى للسياسة الاقتصادية في الثمانينيات والتسعينيات تمثلت في إبقاء التضخم تحت السيطرة، فقد مُنحت البنوك المركزية تفويضا ركز بشكل مباشر على استقرار الأسعار. وجرى الاتفاق عموما على أن مثل هذه الصلاحية المحدودة ستضمن استقلال البنوك المركزية في مواجهة الضغوط السياسية من أجل تطبيق سياسات تضخمية محتملة. علاوة على ذلك، تضمنت معاهدة ماستريخت قواعد مالية لوقاية الدول الأعضاء من تراكم الديون بشكل مفرط، وبالتالي تخفيف حدة المخاوف من أزمة سيادية من شأنها أن تزعزع استقرار الكتلة بأكملها.

مع ذلك، وفي ظل الظروف الحالية من أسعار الفائدة المنخفضة، والنمو الفاتر، وارتفاع معدلات العزوف عن المخاطرة بين المستثمرين، فإن «العامل الخارجي» الأكثر أهمية لمنطقة اليورو هو ضعف الطلب الداخلي من الدول الأعضاء الكبرى مثل ألمانيا. وفي الواقع، لا تستطيع القواعد المالية الحالية ولا إطار الاتحاد الأوروبي لتنسيق سياسات الاقتصاد الكلي معالجة هذه المشكلة بصورة كافية.

وبالتالي، بينما يستطيع البنك المركزي الأوروبي والمفوضية الأوروبية ممارسة الإقناع المعنوي، إلا أنهما لا يستطيعان في الواقع إجبار حكومة دولة من الدول الأعضاء على مواصلة تطبيق التوسع المالي. وعلى الرغم من أن معاهدة ماستريخت تحمي البنك المركزي الأوروبي من ذلك النوع من الضغط الذي مارسه الرئيس الأميركي دونالد ترمب على بنك الاحتياطي الفيدرالي، فإنها لا تستطيع حماية منطقة اليورو من الانقسامات السياسية التي ستحدث إذا وسع البنك المركزي الأوروبي نطاق صلاحياته.

في نهاية المطاف، اتضح أن معاهدة ماستريخت تمثل تجسيدا قويا لفكرة «الحتمية التاريخية». فعندما أُبرِمَت في عام 1992، كانت التحديات الاقتصادية السائدة مختلفة تماما عن التحديات الحالية. حيث أجمعت الآراء آنذاك على أن وجود قواعد مالية وبنك مركزي مستقل بصلاحيات محدودة أمور كافية لتحقيق استقرار الاقتصاد الكلي. في الواقع، تفسر هذه العوامل سبب قبول الأوروبيين الشماليين - وخاصة الألمان - بفكرة العملة المشتركة في المقام الأول.

الحق أن مثل هذا التوافق في الآراء ما كان ليحدث اليوم، حيث تقودنا التحديات الجديدة نحو إجماع جديد على السياسة المالية والنقدية. فعلى جانبي المحيط الأطلسي، طورت البنوك المركزية ميزانيات كبيرة وأصبحت «صانعة سوق»، وثمة حاجة متزايدة إلى إقامة تنسيق أوثق بين صنع السياسات النقدية والمالية. ومن ناحية أخرى، يجب استخدام السياسة المالية بشكل أكثر فعالية لإدارة الطلب. وهذا يستدعي وجود إطار حوكمة جديد تماما، وسيكون إنشاؤه أمرا صعبا للغاية، لا سيما بالنسبة لمنطقة اليورو. ومع ذلك لا يوجد خيار آخر، نظرا لأن استقلالية البنك المركزي الأوروبي، على الرغم من ضرورة حمايتها، لن تكون كافية لضمان استقرار الاقتصاد الكلي.

المديرة السابقة للبحوث في البنك المركزي الأوروبي وأستاذة الاقتصاد في كلية لندن للأعمال