يوسف بن حمد الرحبي
احتفل علماء الفيزياء بالإنجاز الرائع الذي تحقق إثر إثبات وجود موجات الجاذبية (الموجات الثقالية) على ضوء إعلان معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا ومعهد ماساشوستس للتكنولوجيا بالتعاون مع مركز رصد الأمواج الثقالية بالليزر (LIGO) عن اكتشافهم لوجود هذه الموجات بعد أن استخدموا جهازي قياس ليزر عملاقين في لويزيانا وواشنطن وهو جهاز مقياس التداخل الشعاعي الذي ابتكره مرصد ليغو بعد أن رصدوا وجود اضطرابات تذبذبية منعكسة على طول أربعة كيلومترات داخل أنفاق مفرغة على شكل حرف (L) في كل من المرصدين. يبعد المرصدان في لويزيانا وواشنطن عن بعضهما مسافة 3000 كيلومتر وقد بني المركز عام 1992. وقد تمكن العلماء من رصد الأمواج الثقالية نتيجة تصادم ثقبين أسودين أكبر من الشمس بثلاثين مرة ويبعدان 1،3 مليار سنة ضوئية (علما بأن السنة الضوئية هي المسافة التي يقطعها الضوء خلال سنة أرضية). إذن.. ما هي الأمواج الثقالية (أمواج الجاذبية) ولماذا كل هذا الزخم العلمي والإعلامي؟
علينا أن نعود لأصل الحكاية.قبل مئة عام -تحديدا عام 1915 -اقترح ألبرت أينشتاين النظرية النسبية العامة وهي مجموعة معادلات تفاضلية جزئية -سنتحدث عنها في غير هذا الموضع-وهي معادلات تربط بين انحناء الزمان والمكان بشكل مباشر مع الطاقة والزخم لأي مادة وإشعاع موجود وهو مفهوم وضّحه أينشتاين في نظريته النسبية الخاصة حول تكافؤ الكتلة والطاقة وهذا المفهوم هو الذي قاد إلى القنبلة الذرية بعد ذلك.وهذا يعني أن النظرية النسبية العامة تعمم النسبية الخاصة وقانون الجذب العام لنيوتن. ربما تتذكرون قصة التفاحة وسقوطها وما نتج عنها من قانون الجاذبية لنيوتن. فنيوتن من خلال قانونه يرى أن الجاذبية موجودة وتكمن في المادة، والقوة في تجاذب أي جسمين في الكون تتناسب طرديا مع حاصل ضرب كتلتيهما وعكسيا مع مربع المسافة بين مركزيهما (قانون الجذب العام)؛ أي أنه إذا زادت كتلة أي جسمين فإن الجاذبية بينهما تزيد والعكس صحيح، وإذا زادت المسافة بين أ ي جسمين فإن الجاذبية بينهما تقل والعكس صحيح. أما أينشتاين فإنه يرى أن الجاذبية ما هي إلى موجات وتموجات تنقل الطاقة من خلال الكون وهذه الموجات تتحرك بسرعة الضوء في الفراغ والفضاء المنحني.لكن ما قصة الفضاء المنحنى الذي يقترحه أينشتاين؟ الزمان والمكان– على ذمة أينشتاين– يتداخلان في نسيج واحد وكلما كانت الكتلة أكبر لأي جسم في الكون فإن الانحناء في هذا النسيج أكبر.
ظلت هذه النظرية في حالة رمادية لعدة عقود من الزمان فلم تقبل ولم ترفض بسبب عدم وجود وسيلة لإثباتها رغم أن أينشتاين يرى صحتها وكان يقول:( أهمية النظرية النسبية العامة لا تكمن في توقع بعض التأثيرات الدقيقة القابلة للملاحظة، بل في بساطتها وفي تماسكها المنطقي).
والرجل غير قادر على إثباتها بشكل حاسم بسبب افتقاره إلى الوسائل اللازمة لذلك وكذلك بسب أنه فيزيائي نظري وليس تجريبا في غالب صفاته. بعد أقل من نصف قرن أصبحت النظرية مدعوّة على بساط التكنولوجيا لاختبارها وتحديدا منذ عام 1960.
ومنذ ذلك التاريخ إلى اليوم والنظرية تتعرض للاختبار تلو الآخر وهي تبدي صلابة وتخرج بعد كل اختبار ناجحة بدرجة امتياز مع مرتبة الشرف. لم يكن دافع علماء الفيزياء إثبات النظرية فقط وإنما كانوا يبحثون عن أي ثغرات في النظرية لتكون لهم بصمة في ما هو أكبر من نظرية أينشتاين. جدير بالذكر أن النظرية النسبية الخاصة هي أيضا لأينشتاين وقد سبقت النظرية العامة بعشر سنوات -تحديدا في 1905 -يقترح أينشتاين من خلالها أن سرعة الضوء ثابتة والمكان والزمان نسبيان وهما كيان واحد رباعي الأبعاد.
فالعصا التي طولها متر هي – حسب النسبية الخاصة – ليست كذلك!! فطولها يعتمد على سرعتها. فأنت تراها مترا لأنها ليست أسرع منك في الكون. لكن لو قدّرنا أنها أسرع منك بكثير فإن طولها أقصر من متر لأن الزمن يتباطأ إذا زادت سرعتها. لقد تم التحقق من النظرية النسبية الخاصة تجريبيا مرات كثيرة وقد حجزت لها بين النظريات الموثوقة مكانا مرموقا. أما النسبية العامة فبسبب تعقيدها وغرابتها فلا زالت الأبحاث تُخضعها للاختبارات منذ نصف قرن.
من بين الاختبارات اختبار اقترحه أينشتاين بنفسه ويتعلق بمدار عطارد. حين تُطبق نظرية نيوتن على مدار عطارد( Mercury ) كل 100 سنة يوجد فرق مقداره 43 ثانية قوسية لا يمكن حله إلا بتطبيق معادلات أينشتاين التي تعطي نتيجة مذهلة بدون فرق يوجد. وهناك اختبار ثانٍ اقترحه أينشتاين وهو انحناء ضوء نجم يمر بالقرب من الشمس فالضوء وفق النظرية ينحني حين يمر بالتشوّه الحاصل في النسيج الزمكاني (Spacetime) الذي تحدثه الشمس.
وهذا الاختبار قام به عالم الفيزياء آرثر إيدنجتون عام 1919 أثناء حدوث كسوف شمسي وقد أثبت من خلاله صحة النظرية. وهناك اختبار آخر اقترحه أينشتاين أيضاً وهو اختبار الانزياح الأحمر نتيجة مرور الضوء بمجال جاذبي.
ولقد أثبت هذا الاختبار من قبل والتر آدمز سنة 1925 وتم تأكيد التجربة سنة 1959 من قبل روبرت باوند وجلينريبكا. وهناك اختبارات عديدة أجريت على النظرية النسبية العامة أثبتت جميعها صحة النظرية.
إلا أن هناك إضافة اقترحها أينشتاين بعد النظرية بعام – تحديدا سنة 1916 – وهي وجود اضطرابات في نسيج الزمكان بسبب تسارع الأجسام الضخمة تشبه التموجات التي يسببها إلقاء حجر في بركة ماء والتي تنتشر في جميع الاتجاهات بسرعة الضوء.
بالعودة إلى إثبات ليغو فالمرصد لم يكن وحيدا في محاولة إثبات وجود هذه الموجات فهناك أكثر من سبعين منظمة علمية في العالم تحاول برهنة وجود الموجات الثقالية ومن بينها وكالة الفضاء الأوربية التي أطلقت قمراَ صناعيا لدراسة وجود هذه التموجات في الفضاء الخارجي، وهناك جهاز (LISA) (مقياس تداخل الليزر لهوائي الفضاء).
كيف تم الإثبات؟ يجري داخل المرصدين قياس التداخل وهي تقنية تعتمد على فصل حزمة ضوء الليزر إلى جزأين، بحيث يتعامد كل جزء مع الآخر داخل أذرع مقياس التداخل بعد أن يقطعا مسافة أربعة كيلومترات ثم تعكسهما مرآة نصف عاكسة لعدة مرات. ثم يندمجان معا ليشكلا معا صورة تداخل أبعادها متناسبة مع طول ذراع المقياس. وإذا حدث اضطراب في خط سير الضوء داخل أذرع المرصد فهذا يدل على وجود الموجات الثقالية وهذا ما حدث بالفعل.
وسبب التداخل هذا هو الاختلاف الطفيف بين موقع المرصدين بسبب ((التمطط النسبي)) للكرة الأرضية الناتج من وقوعها في خط سر الموجات الثقالية.لتوضيح ذلك تخيل ولدين يمسكان بلحاف من طرفيه، وفي وسطه بالونا مملوءا بالماء، وقام الولدان بإحداث تموجات من خلال رفع وخفض اللحاف؛ سيحدث للبالون تمطط أفقي ورأسي عند كل موجة تمر عليه.مع الفارق الكبير في المثال بين البالون والأرض سيحدث للأرض ما حدث للبالون إذا اعتبرنا أن الكون نسيج زمكاني، وهذا ((التمطط)) صغير جداَ أقل من نواة الذرة بكثير.
لكن ما فائدة هذا الاكتشاف؟ بعد هذا الاكتشاف وبعد مضي مئة عام يحق لعلماء الفيزياء أن يحتفلوا بهذا الإنجاز التاريخي والذي أضاف للنسبية العامة متانة وقوة وزخماَ فهو من ناحية يحقق للنظرية النسبية العامة الاجتياز الأخير لأصعب اختبار لها، وهو من ناحية أخرى قد يساعد على دراسة اللحظات الأولى للانفجار العظيم ((Bigbang))،كما يساعد على فهم جزء مما نراه من الكون. ويبقى أن لا نلغي احتمالا ولو ضئيلا لسببٍ ما كان وراء الاضراب والتداخل في أشعة الليزر غير الموجات الثقالية لتستمر رحلة العلم والفضول المعرفي الهادف إلى تفسير الظواهر الطبيعة منطقيا كما وضعها خالقها تبارك وتعالى.
فلكي بوزارة الأوقاف والشؤون الدينية وعضو في الجمعية الفلكية العمانية