أ.د. حسني نصر
شهدت الشهور الأخيرة جدلا متزايدا حول بعض الكتابات الصحفية التي نشرتها الصحف لكتاب وصحفيين معروفين، وأثارت قدرا كبيرا من النقاش خاصة على شبكات التواصل الاجتماعي، وصل إلى حد تبادل الاتهامات والتراشق اللفظي. وقد دعمت هذا الجدل وزادته اشتعالا بعض المؤسسات والشركات العامة التي دخلت على الخط ومارست حقها في الرد والتعقيب، مستندة في طرحها على عدم استناد الكاتب على مصادر موثوق بها للحصول على المعلومات، متجاهلة حقيقة الصعوبات الكثيرة التي يواجهها الكتاب والصحفيون في الوصول إلى مصادر المعلومات والحصول على هذه المعلومات في ظل غياب قانون يلزم مختلف مؤسسات الدولة على الإفصاح وتقديم المعلومات لمن يطلبها وفق قواعد قانونية محددة.
هذا الجدل يجعلنا نعيد الحديث والتذكير بأخلاقيات العمل الصحفي والإعلامي خاصة ما يتعلق منها بالتعامل مع مصادر المعلومات، وعلاقة الصحفي بمصادره التي تعد إحدى مرتكزات فهم النظام الإعلامي، وكذلك الحكم على مدي استقلال وسائل الإعلام عن الحكومة وجماعات المصالح في أي مجتمع. والحقيقة التي لا تقبل الجدل أن الصحفيين لا يستطيعون نقل صورة حقيقة عما يدور في العالم إلى قرائهم من مخيلتهم، ولذلك فان عليهم أن يعتمدوا على مصادر بشرية للحصول على المعلومات.
ورغم أن الاهتمام بعلاقة الصحفي ومصادره يعود إلى مطلع القرن الماضي، إلا أن هذه العلاقة تكتسب في الوقت الحاضر أهمية كبيرة بالنسبة للطرفين وللمجتمع بوجه عام، خاصة وان مصادر الأخبار أصبحت تشكل أحد أهم العوامل المؤثرة في إنتاج ونشر الأخبار في العالم. ولعل هذا ما دفع باحثين كثر إلى دراسة العلاقة بين الصحفي والمصادر من مداخل متعددة، أفرزت أنماطا متباينة لوصف تلك العلاقة، فوصفها البعض بأنها "علاقة تكافلية" يستفيد الطرفان فيها من تبادل المعلومات والتأثير، فيما وصفها آخرون بعلاقة العداء أو "علاقة الخصومة، و"مباراة الشطرنج"، و"التفاوض الصعب"، و"علاقة حرب وكراهية"، و"مباراة في المصارعة". والواقع أن علاقة الصحفي بمصادره تتميز بأنها علاقة دينامية متغيرة، إذ أنها تكون في بعض الأحيان علاقة عدائية وفي أحيان أخرى تقوم على تبادل المنافع، ولذلك شبهها البعض بعلاقة الزواج بالإكراه الذي تحكمه علاقة عداء وخصومة مستمرة، ومع ذلك لا يستطيع طرف فيه أن يعيش دون الطرف الآخر.
وقبل استعراض أنماط العلاقة بين الصحفي والمصادر، من الضروري الاتفاق على مصطلحي المصدر والصحفي. فرغم القبول العام بمصطلح المصدر إلا انه يبقي غامضا وملتبسا إلى حد ما عندما يتعلق الأمر بعلاقته بالصحفي، لأنه قد يشير إلى شخص أو مؤسسة أو وثيقة من الوثائق. والمصادر هي الأشخاص الذين يتابعهم الصحفي أو يجرى مقابلات معهم، بمن فيهم أولئك الذين يظهرون على شاشات التلفزيون أو من يتم اقتباس أقوالهم، أو أولئك الذين يمدون الصحفي بمعلومات خلفية في موضوع ما، أو يقدمون مقترحات للتغطية الإعلامية. وتقدم المصادر تلك المعلومات بوصفهم أعضاء في جماعة سياسية أو ممثلين عن جماعات معينة منظمة أو غير منظمة. والمصدر بوجه عام هو مورد خارجي للمادة الخام للصحافة، سواء كانت خطابات أو مقابلات أو تقارير أو جلسات استماع حكومية. وبصفة عامة يمكن القول إن أي شخص أو منظمة أو هيئة يتم الاتصال بها من جانب الصحفي للحصول على المعلومات هي مصدر من مصادر الأخبار والمعلومات. وفي المجال السياسي فان قائمة المصادر تشمل المسئولين الحكوميين ونواب البرلمان وأعضاء مجالس المدن والمحافظون والولاة إلى جانب جماعات المصالح والمنظمات الاجتماعية. أما مفهوم الصحفي فانه يجب أن يتسع ولا يقتصر على الصحفيين الأفراد من جامعي المعلومات والمحررين والكتاب، بل يشمل أيضا المؤسسات الإعلامية التي يعملون بها، وذلك حتى نأخذ في الاعتبار العلاقات المؤسسية بين الإدارات الحكومية وبين المؤسسات الإعلامية ضمن الحديث عن علاقة الصحفي بمصادره.
والواقع أن فكرة الصحافة العدائية تبدو راسخة في العقل الجمعي للصحفيين في العالم، خاصة في الدول الغربية المتقدمة، ولدي بعض نقاد وسائل الإعلام. وتستند هذه الفكرة على أساس النظر إلى الصحفيين باعتبارهم كلاب حراسة على الحكومة والمجتمع كله. وقد تطورت هذه الرؤية وترسخت في الولايات المتحدة الأمريكية نتيجة لفضيحة وترجيت في مطلع سبعينيات القرن الفائت ، وأصبحت ظاهرة ثقافية معترف بها في المجتمع الأمريكي والمجتمعات الديمقراطية الأخرى.
من الضروري ونحن نحاول الاقتراب من فكرة الصحافة التي تحرس وتراقب المجتمع أن ندرك كصحفيين أن أصول الدور العدائي للصحافة يتطلب ترسيخ مبدأ "السلطة الرابعة" الذي ينظر إلى الصحفيين باعتبارهم "حراس الديمقراطية" و"المدافعون عن المصالح العامة، من منطلق انه إذا كانت الصحافة لا تستطيع وبشكل مستقل مساءلة المسئولين، وإذا لم تكن قادرة على أن تشكل منتدى مفتوح لتبادل الأفكار والنقد حول ما يجب أو ما لا يجب أن تفعله الحكومة، فانه يصبح من الصعب تصور كيف يمكن للجماهير ممارسة السيادة الشعبية على المؤسسات الحكومية. علينا أيضا ونحن نمارس هذا الدور أن نضع في الاعتبار الآثار السلبية التي يمكن أن تنجم عن المبالغة في النقد واهمها إمكانية انخفاض الثقة الشعبية في المؤسسات الحكومية، ولذلك فانه رغم خطاب الخصومة والعداء الذي قد يرضي قطاعات من القراء، فان على الكتاب والصحفيين أن يرسخوا أيضا بعض أشكال التعاون مع المصادر الحكومية إذا ما أرادوا استخراج المعلومات منهم. وبعبارة أخرى فان الصحفيين يحتاجون إلى تطوير علاقة تقوم على التغذية المتبادلة مع مصادرهم، وبالتالي فان العلاقة التي يجب أن تسود بين الطرفين هي علاقة التعاون وليس العداء المستمر. فكل طرف لا يستطيع وحده التحكم في العلاقة، لان كل منهما يتحكم في جزء من المضمون الإعلامي. فعلي حين يحدد السياسي للصحفي ما يجب تغطيته من أحداث وقضايا، فان الصحفي في المقابل هو الذي يحدد أهمية تلك الأحداث والقضايا والطريقة التي ستعرض بها في وسيلة الإعلام.
أكاديمي بجامعة السلطان قابوس