سقوط وصعود البطولة الشعبية

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ٢٨/أغسطس/٢٠١٩ ١٤:٠١ م
سقوط وصعود البطولة الشعبية

روبرت سكيدلسكي

مؤخرا، شاهدت فيلم «الرجل الذي كان حرا أكثر مما ينبغي له»، وهو فيلم وثائقي مؤثر عن السياسي الروسي المنشق بوريس نمتسوف، الذي قُتِل بالرصاص أمام الكرملين في عام 2015. في تسعينيات القرن العشرين، كان نمتسوف نجما سياسيا شابا وسيما صاعدا، وفي وقت لاحق رفض الانحناء لاستبداد الرئيس الروسي فلاديمير بوتن وذهب إلى المعارضة، حيث تعرض للمضايقات، والسجن، ثم قُتِل أخيرا. وقد جعلني الفيلم أفكر في الدور المتضائل الذي تلعبه البطولة والشجاعة في الحياة الحديثة، وأيضا في مصير روسيا.

إن البطولة نتاج لمواقف متطرفة ــ تنطوي كلاسيكيا على الحرب والعنف. ولأن طريقة الحياة الغربية اليوم غير متطرفة، فقد تضاءلت قيمة البطولة. لكن مخزونها آخذ في الارتفاع في أغلب مناطق بقية العالم، بما في ذلك روسيا.

إن البطل نبيل ومدمر لذاته في آن. فهو لا يكتفي بتفضيل ميتة مشرفة على حياة مخزية فحسب، بل ويفضل أيضا الموت شابا مجيدا على أن يعيش حياة طويلة منقوصة عامرة بأوسمة شرف سهلة المنال (والنسيان). يقول هيكتور في إلياذة هوميروس: «صحيح أنني هلكت، لكني هلكت عظيما». فالحياة البطولية مأساوية بطبيعتها؛ والخلود هو مكافأتها الوحيدة.
وقد صُبّ نمتسوف في هذا القالب. فهو، وفقا لبعض من أجريت معهم مقابلات في الفيلم الوثائقي، كان يعتقد أنه لن يقع ضحية للاغتيال قَط، بعد أن كان ذات يوم وزيرا في الحكومة، وخليفة بوريس يلتسين المفضل لرئاسة روسيا. ومع ذلك، يبدو لي أنه كان يتحدى نظام بوتن أن يُقدِم على قتله.
الشجاعة، على النقيض من البطولة، ليست مأساوية بالضرورة. لكنها عانت من مصير مماثل. فقد تضاءلت أهمية الحرب، وهي الساحة الرئيسية لاستعراض الشجاعة، لأنها أصبحت اليوم ميكانيكية بعد أن كانت تعتمد على العمالة الكثيفة. ورغم أننا نعجب بحق بالأعمال التي تتسم بالشجاعة، فإننا لم نعد نطالب بها كفضيلة عامة. ونحن لا نتوقع من الساسة أن يكونوا مثل الملوك الذين كانوا يقودون قواتهم إلى المعركة ذات يوم، بل ننتظر منهم مجرد المهارة والقدر المناسب من الجَلَد.
الواقع أن الشجاعة الأخلاقية، التي تختلف عن الشجاعة البدنية، فضيلة مدنية وليست عسكرية. فقد يخاف شخص ما من الأذى الجسدي، لكنه لا يخاف أخلاقيا. لكن الشجاعة الأخلاقية كانت دوما أقل إثارة للإعجاب من الشجاعة البدنية، لأنها تنطوي على الإتيان بما يخالف الطبيعي. ويكره الحكام هذا النوع من الشجاعة لأنه «يبوح بالحقيقة للسلطان»، ولا تشعر الحشود بالارتياح تجاهه لأنه يواجه تحيزاتهم ويكشفها.
من منظور أخلاقي، كانت الشجاعة الأخلاقية تُعَد على نطاق واسع أعلى أشكال الشجاعة في العصر الليبرالي، لأنها متعمدة وليست غريزية. لكن قيمتها تضاءلت بسبب العقوبات المترتبة على استعراضها. فالآراء التي كانت تُعَد ذات يوم معبرة عن شجاعة أصبحت الآن مجرد آراء «مثيرة للجدال»، ورغم أنها قد تقود إلى خسارة المرء لوظيفته أو أصدقائه، فإن هذا ليس كمثل الحرق عل الخازوق.
في ستينيات القرن الخامس عشر، تصور الفيلسوف توماس هوبز مسبقا تراجع البطولة الشعبية والشجاعة عندما كتب عن مواطنين «كلما قلت جرأتهم، كلما كان ذلك أفضل، سواء للكومنولث أو أنفسهم». فقد تسبب نمو الاحترافية، وانتشار التجارة السلمية والتصنيع، في تقليل الحاجة إلى التصرفات البطولية أو الشجاعة. كان هذا الاتجاه العام للعلوم الحديثة والمنظمات الاجتماعية ينطوي على خلق عالم حيث لم تعد الشجاعة وغير ذلك من الفضائل ضرورية. وفي الغرب على الأقل، أصبحت أعمال البطولة والشجاعة الآن محصورة في المسرح والشاشة، حيث يمكننا أن نعرب عن إعجابنا بها دون أن نضطر إلى تحمل العواقب المترتبة عليها.
كانت أعمال البطولة والشجاعة تُعَد دوما من الفضائل الذكورية. في خطاب تيلبوري الشهير في زمن الأسطول الإسباني، عززت ملكة إنجلترا إليزابيث الأولى هذه الصورة النمطية، عندما أعلنت: «أعلم أن جسدي جسد امرأة ضعيفة واهنة؛ لكني أملك قلب وأحشاء ملك». كان يُعتَقَد أن النساء اللاتي يحملن في صدورهن قلوب رجال حالات استثنائية. في المقابل، زعم هوبز أن «الرجال الذين يتمتعون بشجاعة النساء ينبغي إعفاؤهم من الخدمة العسكرية، نظرا لخطر إقدامهم على الفرار في مواجهة العدو». ولم يكن آدم سميث وحده في الإعراب عن تخوفه من أن تتسبب التجارة في جعل السكان «متأنثين وجبناء».
كان المخزون الضخم من الشجاعة غير المستغلة، وخاصة من ذلك النوع الأخلاقي الذي تبديه المرأة، موضع تجاهل في عموم الأمر من قِبَل الكتاب (الذكور). ومع ذلك، كان تحرير المرأة نتيجة لشجاعة أنثوية متزايدة. فقد أبدت هانا أردنت، التي فرت من ألمانيا في زمن هتلر في ثلاثينيات القرن العشرين، شجاعة أخلاقية مثالية في تأليف كتابها الصادر عام 1963 بعنوان «إيشمان في القدس: تقرير عن ابتذال الشر»، حول محاكمة العقل المدبر اللوجيستي للمحرقة النازية. ولا ينبغي لنا أن نندهش عندما نرى النساء الشابات، وآخرهن المراهقة جريتا ثونبرج، وقد أصبحن زعيمات سياسيات مناصرات للبيئة. وعلى هذا فإن النساء يعوضن عن تراجع شجاعة الذكور في الحياة العامة، وهو أمر يجد فيه كثير من الرجال سببا للانزعاج الشديد.
يعيدني هذا إلى نمتسوف وروسيا. في عام 1996، كان نمتسوف السياسي الروسي «الليبرالي» الوحيد الذي ساق الحجج لصالح السماح للحزب الشيوعي الذي أطيح به حديثا، والذي كان متقدما في استطلاعات الرأي آنذاك، بالمنافسة في الانتخابات الرئاسية. قال إن هذه هي الوسيلة الوحيدة لإنشاء تقليد النقل المشروع للسلطة. وتصور ليبراليون روس آخرون أن نمتسوف به مس من جنون. في أعقاب ذلك، أعيد انتخاب يلتسين بطريقة فاسدة، ونجح خليفته بوتن في إبقاء نفسه في السلطة كنوع من «الدكتاتورية الناعمة». لكن نمتسوف كان نافذ البصيرة في الدعوة إلى الديمقراطية الحقيقية باعتبارها الشكل الحديث الشرعي الوحيد للحكم.
منذ عام 2011، بدا حكم بوتن هشا على نحو متزايد في مواجهة احتجاجات الشوارع المتنامية في موسكو وغيرها من المدن الروسية. وعندما يصبح من غير الممكن الاعتماد على مثل هذا النظام في تحقيق الرخاء الاقتصادي، فمن المحتم أن يتعرض مستقبله للتهديد مع ظهور أبطال جدد في المعارضة. وهذا هو الدرس الناشئ ليس فقط في روسيا، بل وأيضا في الشرق الأوسط وشرق آسيا.
من الواضح إذن أن قيمة البطولة عادت إلى الصعود في قسم كبير من العالم. وقد لا يكون المستقبل الآن بيد الساسة والدبلوماسيين بل بيد الرجال ــ والنساء ــ الذين لا يخشون الموت.

عضو مجلس اللوردات البريطاني، وأستاذ الاقتصاد السياسي الفخري في جامعة وارويك.