الدوامة

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ١٢/يناير/٢٠١٦ ٠١:٤٠ ص

لميس ضيف

يقضي سنوات من عمره ينتظر أو يخطط لشراء أرض تصلح لبناء بيت العمر ثم يستحصل عليها بشق الأنفس وما أن يمتلك بيتا خاصا، ويهدأ من عاصفة الديون ومشقة التعمير حتى يخطط مباشرة لشراء أرض ثانية.. وبعد أن يسكن في بيته لسنوات يخطط لتوسعته وتجديده. وبعد أن يمتلك سيارة يتمنى سيارة أحسن منها.. وأن رزقه الله ببنت تمنى الولد. وأن رزق بالولد تمنى له مزيدا من الأخوة.. ويعيش غير راضً عن دخله ويفكر كيف يرفعه.. ثم يخطط لرحلات مع الأهل والأصدقاء وفي كل مرة يعود فيها من رحلة يفكر في التوفير للرحلة التي تليها.. ولأن المدارس الحكومية قد لا ترقى لطموحاته يشد الحزام ليلحق أبناءه بمدارس خاصة تستنزف ميزانيته وتعيشه في دوامة القلق من الدفعات المتلاحقة.
هذه ليست حياة خاصة برب أسرة بعينه، أنها تقترب من حياة مئات الآلاف من البشر – مع اختلاف بعض التفاصيل – حياة هرولة لا راحة فيها ولا جمال، حياة مخضبة بالقلق والأحلام فيها مصفوفة على الرفوف وعمر الفرح فيها بعمر الفراشات، حياة تنتهي في غفلة ودون سابق إنذار تاركةً أنصاف المشاريع وأنصاف الأحلام معلقة تبحث عن كفيل جديد.
هناك قصة لطاغور ما أفتئ أذكرها؛ للملك الذي مرض وجافاه النوم وحار الأطباء في علاجه فوصف له حكيم القصر علاجا غريبا: أن يلبس نعال أسعد رجل في الولاية.. فرصد مكافأة مالية لمن يأتي به له وبالفعل طفق الحراس يستقصون في المدن عن أسعد رجل وفي كل مرة يصلون لشخص ويطرقون بابه يشتكي لهم عّلة تؤرقه خفت على الناس التي تغتر بالمظاهر، وعندما أجمع الناس على أن صيادا هو بلا شك أسعد من قابلوه في حياتهم إذ لم يشتكي يوما هما لأحد تسابق الحرس عليه وهجموا عليه زرافات وفرادى ليخطفوا نعاله فاكتشفوا بأنه لا يملك نعالا ليقدمه للملك !!
*****
الحكمة من القصة وطرحنا اليوم .. هي أن الثقافة الاستهلاكية التي غرقنا بها حتى الأذنين كانت لعنة علينا وعلى صحتنا، أننا اليوم نملك كل شيء .. ونملك وسائل الراحة التي لم يمتلكها الملوك في عصور خلت ومع ذلك، ورغم ذلك، نقف على سلالم الشقاء والبؤس نتسول السعادة التي تأتي معلبة في عقاقير اكتئاب أو لحظات انتصار ونشوة قصيرة جدا "كتلك التي يحصل عليها المدخن" تزول تاركة وراءها غيمة من الضجر والكدر.
إننا بحاجة اليوم لترويج الزهد كقيمة ومبدأ.
الزهد في مالا نملك، الزهد في كل الكماليات التي لم تكملنا بل جعلتنا قاصرين أكثر، الزهد في التنافسية التي شوهت الأجيال وجعلتهم مسوخا يريدون كل شيء ولا يعرفون كل ما يريدون، الحياة لا تقاس بما نملك، بل بعمر السعادة والبهجة فيها لو كنتم تفقهون.