"ليبرا".. عملاق يحتاج ترويض

مقالات رأي و تحليلات السبت ٠٣/أغسطس/٢٠١٩ ٢١:٢٢ م
"ليبرا".. عملاق يحتاج ترويض

يتصاعد الجدل مجدداً حول العملات الرقمية المشفرة، ولكن بشكل غير مسبوق هذه المرة، وخصوصاً منذ إعلان تحالف يقوده عملاق وسائل التواصل الاجتماعي «فيسبوك» في يونيو الماضي عن التخطيط لإطلاق عملة رقمية جــــديدة العام المقبل باسم «ليبرا».

والمؤكد أن البنوك المركزية حول العالم بدأت تيقن أن البساط سوف يُسحب من تحت أقدامها، مع دخول «فيسبوك» وحلفائها على خط العملات الرقمية، ليس فقط لأن عملاق التواصل الاجتماعي أصبح يضم أكبر تجمع بشري عرفه التاريخ، بمشتركين وصل عددهم إلى 2.4 مليار مستخدم نشط، وفقاً لأحدث البيانات المتاحة، ولكن لأن التحالف المشكل من 28 شريكاً يضم أيضاً مؤسسات عالمية عملاقة بعضها صاحب باع طويل في الخدمات المالية والتكنولوجيا المالية مثل «ماستركارد» و»باي بالهولدنغز» و»أوبر تكنولوجيز». وهو ما يعني اقتراب صدور واحدة من أكثر العملات تداولًا في العالم إذا ما نجحت «فيسبوك» وحلفاؤها في إقناع هذا العدد الملياري من رواد الشبكة الاجتماعية الأكبر عالمياً في تحويل جزء من مدخراتهم إلى «ليبرا»، وهو ما قد يمنح أيضاً هذا التحالف -في حال نجاح الإصدار- سلطة غير مسبوقة لم يحظ بها أي بنك مركزي حول العالم.

وهذه المرة، تخطى الجدل والتحذيرات البنوك المركزية ليصل إلى وزراء مالية الدول الصناعية السبع الكبرى، الذين وجهوا انتقادات لاذعة لخطط إطلاق «ليبرا» مطالبين «فيسبوك» وتحالفها بضرورة احترام القواعد التنظيمية المتعلقة بمكافحة تبييض الأموال، وضمان أمن الصفقات وبيانات المستخدمين، بل أن بعض زعماء العالم مثل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وجه بدوره انتقادات قوية، داعياً «فيسبوك» إلى أن «تُخضع نفسها للقواعد التنظيمية الأميركية والعالمية إذا كانت ترغب في أن تصبح بنكاً»، ووصف العملات المشفرة بأنها «ليست أموالاً... وتستند إلى اللاشيء».
ورغم شح المعلومات التي يمكن من خلالها الحكم على مدى إمكانية نجاح «ليبرا» ومثيلاتها في توفير بديل آمن وفعال ومضمون للعملات التقليدية، خصوصاً في ظل التقلبات الحادة التي تشهدها تداولات العملات المشفرة المصدرة بالفعل وأشهرها «بتكوين»، إلا أن تبني هذا التحالف العملاق بقيادة «فيسبوك» لخطط إصدار عملة جديدة تختلف -حسب ما تم إعلانه- في طبيعتها وأغراضها نسبياً عن نظيراتها القائمة بالفعل، ربما يبعث على التفاؤل بأننا أمام فتح جديد في مجال التكنولوجيا المالية والشمول المالي، خصوصاً أن من شأن وجود عملة رقمية عالمية مثل «ليبرا» جعل إرسال الأموال حول العالم بنفس بسهولة تبادل الرسائل النصية، حيث ستتجاوز التعقيدات الإدارية والرسوم وعقبات التأخير المحتملة وغيرها من الحواجز التي تحول دون تدفق النقود بيُسر، كما أن وجود هذه العملة الجديدة، يمكّن الأشخاص في البلدان الأقل نمواً من الوصول إلى النظام المالي، ويمكن أن يقود العالم إلى موجة من الابتكار في مجال التمويل، كما فعلت ثورة الإنترنت عندما أتاحت مجالاً جديداً للراغبين في العمل عن بعد وفي مجال الخدمات عبر الإنترنت.
ولكن الأمر ليس وردياً بشكل مطلق، فبالإضافة إلى إمكانية استخدام مثل هذه العملات في أغراض إجرامية نظراً لغياب الهيئات الرقابية، ارتبطت «فيسبوك» في أذهان المستخدمين حول العالم بقضية تسريب بيانات بعض المشتركين، وهو ما يزيد المخاوف بشأن قدرتها وحلفائها على إصدار عملة رقمية آمنة وغير قابلة للاختراق، وللتغلب على هذه المخاوف أعلن التحالف أنه سيتم تشكيل جمعية مقرها جنيف لتمهد الطريق أمام المشروع قبل إطلاق أول عملة من «ليبرا» إضافة إلى إدارة الاحتياطيات النقدية، على أن ينضم مشاركون جدد إلى الأعضاء المؤسسين للجمعية التي تضم حالياً «فيسبوك» وحلفاءها، ومن المرجح بلوغ الأعضاء إلى 100 لكل منهم حقوق تصويت متساوية، حسب ما تم إعلانه.
نحن إذاً بصدد مشروع عملاق لإصدار عملة رقمية جديدة ربما تغير وجه المعاملات المالية الحالية، بل وتغير معها وجه العالم، والمؤكد أن هناك طلباً حقيقياً على هذا النوع من العملات، لأنه يسد فراغاً لم تفلح الوسائل التقليدية في سده، وخصوصاً مع التطورات المتلاحقة في تكنولوجيا بلوكتشين التي تعتبر فتحاً جديداً في مجال التكنولوجيا المالية من شأنه إحداث تغيير شامل في النظام المالي التقليدي. ويبدو أن الجدل المتصاعد الدائر حالياً لن يوقف الموجة العاتية للعملات الرقمية والتي أصبحت حقيقة واقعة في حياتنا، بل أصبح متابعة أسعارها وتقلباتها في الأسواق العالمية محل اهتمام قطاعات واسعة من الأشخاص العاديين في المجالس والمنتديات، ولذا فمن الأفضل أن تسارع البنوك المركزية حول العالم إلى احتواء وترويض هذا الفتح التكنولوجي الجديد بدلاً من مقاومته والتحذير من مخاطره، فالأفضل لكل الأطراف، ومنهم المستهلكون المتعطشون لهذا النوع من المعاملات المالية الرقمية، أن تقود البنوك المركزية والحكومات هذا التحول الهائل الذي ستصنعه العملات المشفرة في حياتنا، وأن يكون -على الأقل- تحت إشرافها ولكن بقواعد وروح جديدة تناسب التطور التكنولوجي الهائل الذي طال كل شيء من حولنا، وخيراً فعلت كل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، بإعلانهما المشترك عن إصدار عملة رقمية خاصة بهدف تحسين وتفعيل كفاءة المعاملات بين البلدين، وهذه بداية جيدة سيتبعها بالتأكيد خطوات أكثر تطوراً خليجياً وعربياً، وهو ما نتمنى أن نراها قريباً.

رئيس مجلس الإدارة التنفيذي في إنفستكورب، رئيس مجلس إدارة بنك صحار