السلطان قابوس وخطبته الخالدة في النصر بالحرب

مقالات رأي و تحليلات الخميس ٠١/أغسطس/٢٠١٩ ١٣:٤٥ م
السلطان قابوس وخطبته الخالدة في النصر بالحرب

نصر البوسعيدي

في يوم 11- 12 لعام 1975م وصلت البشارة إلى كل عُمان بعد كل الشهداء الذين سقطوا بأن البلاد تنبض بالحب والتسامح حينما استطاع البواسل بقيادة السلطان قابوس من إسقاط المد الشيوعي ودحر التدخلات الخارجية في ظفار بعد أكثر من 10 سنوات من الحرب والتشرذم والخصام كانت أسبابها الحقيقية تكمن في العزلة والتشدد السلطوي الذي مارسه السلطان السابق لأسبابه الخاصة بعدما ضاق ذرعا من بعض الدول المجاورة وأطماعهم ودعمهم لحركات التمرد والانقسام وهو من وحد عمان تحت سلطة واحدة بعد عناء شديد.

لم تكن عُمان قبل عام 1970م إلا صراعات عميقة وخطيرة على السلطة أدخلت البلاد في دوامات التمزق بوجود أطماع خارجية إقليمية ودولية تسببت في سقوط الكثير من الأبرياء وتردي الأوضاع المعيشية في البلاد وخاصة بعدما نشبت حرب ظفار ضد السلطان سعيد بن تيمور عام 1964م وهو نفس العام الذين نكب فيه اهل عمان في زنجبار وقتل منهم الآلاف في هجوم بربري تنجانيقي لا يمت للإنسانية بأي صلة أمام عالم متفرج على المذبحة دون أي حساب للقائمين عليها، وكأن المصائب تأتي على أهل عمان مجتمعة بسبب أخطاء كارثية كان يمكن تفاديها.
لم يظل الحال هكذا في عُمان فقد أجمعت الأسرة الحاكمة على ضرورة أن يتخلى السلطان سعيد بن تيمور رحمه الله عن الحكم في هذه اللحظات الصعبة ليخلفه ابنه السلطان قابوس الذي كان عائدا من إنجلترا وبعض دول العالم وهو من تخرج من أكاديمية ساندهيرست العسكرية الملكية، في المقابل رفض السلطان سعيد فكرة التغيير، مما تسبب في أن يعمل أفراد الأسرة على تدبير خطة يستطيعون من خلالها إجبار السلطان سعيد على التنازل عن الحكم، وفعلا تم لهم ذلك مع وجود عدد كبير من المؤمنين بالتغيير في القصر بصلالة، فتم الاستيلاء على القصر ومخاطبة السلطان سعيد بأن الوضع قد انتهى لهذا الحد وأن البلاد تغرق أكثر في بحر من الدم والتدخلات السافرة، وبأن ابنه السلطان قابوس يستطيع أن يحكم وينهي هذه المشكلة. بعد هذه الأحداث تنازل السلطان سعيد عن الحكم لابنه السلطان قابوس وغادر البلاد متوجها إلى بريطانيا ليقيم فيها حتى وفاته عام 1972م. استبشرت عُمان بالعهد الجديد وبالأخص بعدما خاطب السلطان قابوس شعبه في عام 1970م، ليعلن لهم عن الكثير من العمل الذي يجب على العمانيين جميعهم القيام به من أجل الوطن ووحدته، كما أنه أسقط الكثير من القيود التي كانت مفروضة في العهد السابق، وعاهد شعبه بأن مشكلة الحرب في ظفار ستنتهي لا محاله بالقوة والتسامح والحكمة والعفو في عز المقدرة، لذا كان يخاطب كل من يعارض العهد القديم بعفا الله عما سلف. فكان السلطان قابوس في مقدمة الصفوف بالمعارك التي كانت موجهة خاصة ضد الشيوعية التي توغلت بين المعارضة التي كانت لا ترغب بتاتا بالانضمام للعهد الجديد من أجل وحدة عُمان تحت حكم واحد. استمرت الحرب حتى عام 1975م وهو العام الذي كان البشرى الحقيقية لأهل عُمان وقائدها وجيشها، بعد أن انظم الكثير من أبناء ظفار في صفوف الجيش العماني إيمانا بأن الوطن يحتاج للوحدة أكثر من الخصام الذي استمر طويلا. وكالعادة فإن السلطان قابوس منذ توليه الحكم كان في كل مناسبة وطنية يلقي الخطب السلطانية على شعبه ويجدد معهم دوما الأمل بأن غدا هو الأفضل لعمان لا محال. ففي 18 – 11 عام 1975م كان العيد الوطني الخامس للبلاد وفيه قال جلالته خطبة مهمة جدا أستطيع أن أسميها خطبة الكرامة والأمل بالنصر من أجل عُمان سآخذ منها الجزء المتعلق بهذه الحرب وبتلك الشجاعة والتضحيات التي قدمها الجيش العماني بقيادة سلطانهم من أجل عُمان التي نعيشها اليوم بما أن وبعد شهر فقط من وعد جلالته لشعبه انتهت الحرب بنصر مؤزر للوحدة العمانية التي أصبحت مضرب المثل في التعاضد والتعايش والسلام. وقد بدأ جلالته خطبته بعد حمده لله بتذكير الجميع بضرورة الوحدة والحفاظ على ما تم بقوله « كل عام وبلادنا العزيزة تواصل تقدمها بثقة لا تعرف التردد، وازدهارها بهمة متدفقة لا تعرف الكلل، وعزيمة قوية يحدوها البشر، ويظللها الأمل ممثلا في الجهود المتضافرة والإنجازات الهائلة بنواياكم المخلصة وتضامنكم في الوقوف صفا واحدا كالبنيان المرصوص في مواجهة كل التحديات الصعبة».
ولم ينسى جلالته أن يذكر شعبه بضرورة اهتمامه الخاص بالاحتفاء في كل عام بالعيد الوطني قائلا : « أن تمجيدنا لأعيادنا الوطنية واعتزازنا بها إنما ينبع في تعبير صادق عن وفائنا لأرضنا الطيبة وشعبها البطل».
وهنا بدأ السلطان قابوس بعد هذه المقدمة يزف وعد وأمل بشرى النصر لشعبه من أجل الإيمان والعقيدة والوطن :
« أيها الأخوة إننا نحتفل بانتصارات متوالية لقواتنا المسلحة الباسلة وفرقنا الوطنية الشجاعة، تساندها القوات الصديقة التي حققت لعماننا الحبيبة انتصارات مؤكدة في تاريخ معاركها وسجلت بكل الفخر والاعتزاز أنصع صفحات البطولة والفداء، انهم حماة عقيدتنا الإسلامية الشريفة التي نؤمن بها كل الإيمان والتي نعتز بشرف دفاعنا عنها».
وبعدها أخذ المقام السامي بسرد بعض بوادر هذا الانتصار الموجه ضد المد الشيوعي خاصة بقوله : « تعرفون جميعا الضربة التي وجهها جنودنا البواسل لعملاء الشيوعية، تلك الضربة التي جعلتهم يدركون أن لكل عدوان ردعا ولكل معتد رادعا، وإننا نعلنها على مسامع العالم أجمع إننا لن نتردد أبدا في الدفاع عن سلامة هذا الوطن الغالي ضد أي اعتداء بكل الوسائل الممكنة .. إننا نضع العالم أجمع أمام حقيقة لا تقبل الجدل اننا ماضون في سياستنا ضد هذا المبدأ البغيض الهدام مصرون على تطهير ارضنا من رجس الشيوعية وعملائها الأذناب، وإننا ماضون في سياستنا ضد هذا المبدأ الهدام وفاء لديننا بدافع من وطنيتنا إخلاصا لعقيدتنا وحفاظا على طهر أرضنا حماية لمكاسب شعبنا وحرصا على استقلالية قرارنا «. وبعد ذلك أوضح السلطان قابوس لشعبه الضرر الناجم من الأفكار الشيوعية الهدامة في هذه المعارك حيث قال : « انهم ينشرون البؤس بين مواطنيهم، يفتحون السجون والمعتقلات ، ونحن نشيد المدارس ونبني المستشفيات، يضعون العراقيل والشوك ويحصون على الناس أنفاسهم، ونحن نزيل العقبات ونسهل مصاعب الحياة ونشجع الحريات العامة شريطة أن لا تمس بأمن الدولة، لأن أمن الدولة يعني في ذات الوقت أمن المواطن. أجهزة إعلامهم سخرت للسباب والتهجم وتلفيق التهم الكاذبة، وإعلامنا يعمل لخدمة المواطن وتثقيفه والترفيه عنه معتمدا على الكلمة الصادقة والخبر اليقين». وبالنسبة للتدخلات الخارجية المعادية لوحدة عُمان والتي تمول كل حركات الانفصال والتشرذم فقد قالها السلطان قابوس لشعبه بكل صرامة وصراحة وهو يأمرهم بالرد الملجم لكل معتدي : « تلك سياستهم وهم أحرار داخل حدودهم، والذي يعنينا أن لا يتدخلوا في شؤوننا، وأن لا ينتقصوا من سيادتنا، فنحن نعرف كيف نرد، ومتى نرد، فالجزاء من جنس العمل، ومن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه». ولم ينسى جلالته بأن يعبر عن رضاه وأسمى آيات الشكر والعرفان للجيش العماني الذي ساهم في رفعة عُمان بالتضحية من أجل الوحدة الوطنية حيث قال : « أيها المواطنون .. أن ابناءنا الصامدون رجال القوات المسلحة الباسلة والفرق الوطنية الشجاعة قد سجلوا بكل الفخر والإعتزاز انصع صفحات البطولة والفداء، انهم حماة عقيدة لا يشكون بشرفها، ومبدأ لا يقبلون الحيدة عنه، ويؤثرون الموت في سبيله. وأردف قائلا : « أني هنا أسجل باسمكم بكل الفخر والتقدير والعرفان بالجميل لكل فرد من القوات العاملة على جبال ظفار الشامخة الساهرة على أمن وطننا الحبيب والقوات الصديقة التي ساندت جيشنا الباسل واسهمت في افتتاح الخط الأخضر الذي كان مرتع لعصابات البغي والإرهاب والتمرد والذي كانوا يسمونه الخط الأحمر، ولست أعرف من أين أتوا بهذه التسمية؟! أمن الشيوعية الحمراء، أم من دماء الأبرياء التي أراقوها؟!
لقد صبرنا طويلا وعملاء الشيوعية يرتكبون أبشع جرائم الغدر ضد الآمنين العزل في جبال ظفار، لذا فلم تكن ضربتنا التي وجهناها في الشهر الفائت إلا ردعا علها تعيد إليهم صوابهم.. إنهم يدفعون بالأبرياء من أبناء شعبهم وقود لحرب لا تمت للدين بصلة ولا للوطنية بعلاقة، ولا للكرامة برباط، إنما لبقاء فئة متسلطة في الحكم تستورد أفكارها من خارج حدودها يستنزفون دماء شعوبهم ويتاجرون بوطنهم في سوق العمالة والتبعية والضلال.. وإنني إذ أهنئ جيشنا الباسل والقوات الصديقة، أرى الأمل يعلو وجه هذا الشعب الذي لا يعرف من العنف إلا دفاعا عن عقيدة، ولا يعرف من الإصرار إلا تصميما على الثبات على عقيدته والحفاظ على مكاسبه التي تحققت في مسيرته الميمونة المباركة».
وشكر جلالة السلطان في خطابه كذلك الجنود المرابطين في تأمين الطرقات ومسارات التجارة البرية في وقت كانت فيه الأوضاع غير مستقرة وخطيرة للغاية فقال :
« لا يفوتني هنا أن أوجه شكري للذين صنعوا القوة العمانية سياسية كانت أو اقتصادية، انهم أبناؤنا الجنود الذين أمنوا طرق التجارة البرية التي تشهد اليوم رواجا منقطع النظير في مواقع كان يخشى الإنسان فيها على نفسه في وضح النهار..
إن نشاط الحركة التجارية البرية في المواقع التي طهرها جيشنا الظافر في المنطقة الجنوبية وساما لأفراده الذين يقومون بمهمات مزدوجة لم تقتصر على المهمات العسكرية الحربية بل تأمين شق الطرق وتأمين التجارة واستقرار المواطن والإسهام في انعاش مناطق جبال ظفار».
وفي ختام هذه الخطبة الخالدة للشعب العماني قال جلالة السلطان وهو يزرع الأمل في نفوس الجميع : « لقد حل غدنا مشرقا بفضل الله في كل موقع، وارتسم على كل وجه رجاء يبدد بإشراقة غيوم الظلام ليضيء بنوره طريق الحضارة التي نشهدها اليوم رفاهية وتقدم ورخاء على أرض عمان الحبيبة..
فأهلا بالعيد، وأهلا بالغد ووعدا بمضاعفة الجهد ومواصلة العمل والإنجاز بذلا وعطاء، ومواكبة للتطور من أجل غد جديد يشرق كل صباح في كل يوم من أيام مسيرتنا الجادة التي لا تعرف من الأمس إلا ماضيا تليدا ومن اليوم إلا مجدا جديدا ومن الغد إلا مستقبلا سعيدا ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) والله يوفقكم ويرعى مسيرتكم ويبارك خطاكم نحو مستقبل أفضل..
وختاما يهمني أن أقول لكم احذروا المنافقين .. هم في الدرك الأسفل من النار الذين وصفهم الله تعالى بقوله الكريم ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤون) صدق الله العظيم».
وما إن أنتهى السلطان من خطبته حتى بدأت في الأيام التي تلتها ملامح النصر المبين في ظفار ففي تاريخ 11 – 12 – 1975م زف جلالته بشرى النصر لشعبه الذي عاهده على إنهاء هذه الحرب وحقق وعده لتحيا عُمان بشعبها حرة أبية تسير في سلام ووحدة ووئام وحكمة واتزان في منطقة مشتعلة سياسيا بالمراهقات والخصام.

المراجع :

عمان فجر جديد المواءمة بين الأصالة والمعاصرة، ليندا باباس فانش،ترجمة ناصر بن سعيد الكندي، مكتب مستشار جلالة السلطان للشؤون الثقافية (2016م)،

سلطنة عمان، مؤسسة عمان للصحافة والنشر والإعلان.

خطب وكلمات حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم 1970 – 2010م، وزارة الإعلام – سلطنة عُمان 2010م.