«بيت البركة»: عيش كريم للمتقاعدين

مقالات رأي و تحليلات الاثنين ٠١/يوليو/٢٠١٩ ١٢:٥٥ م
«بيت البركة»: عيش كريم للمتقاعدين

باميلا كسرواني

في بيروت، التقيت بمؤسسة «بيت البركة»، مايا ابراهيمشاه، لتحدثها بالتفاصيل عن هذه المنظمة غير الحكومية اللبنانية التي تقدّم يد العون لمواطنين متقاعدين وتأخذها بجولة على بعضِ منازل الأكثر فقراً منهم. لم أكن أعرف عند وصولي إلى منطقة كرم الزيتون في الاشرفية وعندما دفعت باب متجر «بيت البركة» أن عالماً جديداً من قصص القهر والفقر والحرمان سينفتح أمامي؛ عالمٌ لم أكن أتخيّل أنه موجود في أزقة طالما اعتادت قدماي السير فيها بالماضي.

يعجّ المتجر بالناس: بعضهم يخرج محمّلاً بأكياس «بيت البركة» القماشية المليئة بكل ما يحتاجونه من مأكولات ومستلزمات للبيت وآخرون جالسون حول ركوة قهوة أعدّتها روزا بانتظاري.

«بيت البركة هو منزل لكل شخص محتاج. كل إنسان يشعر أنه متروك وفي آخر حياته، يأتي إلى بيت البركة. لذلك شعارُنا هو يدين، لأننا نضم الناس ونقدم لهم ثلاث خدمات: مأوى- فالأهم أن يكونوا نائمين في مكان آمن-، وطعاماً مجانياً، وطبابة»، تخبرنا مايا في بداية حديثها.
فاليوم، تساعد المنظمة أكثر من 328 شخصاً عملوا طوال حياتهم ودفعوا الضرائب ولكن عندما بلغوا سن التقاعد أي 65 سنة، وجدوا أنفسهم من دون أي مردود. أفراد وعائلات يتوزّعون على معظم المناطق اللبنانية مثل كرم الزيتون، وبرج حمود، والدورة، وعين المريسة، والحمراء، وطرابلس، ومرجعيون، وصير الضنية...
وكانت الفكرة قد انطلقت عندما تعرفت مايا على امرأة أنيقة تعيش تحت أحد جسور منطقة برج حمود. وبعد محاولات عدة، أخبرتها أنها عندما تقاعدت، لم يكفِ معاشها التقاعدي لتغطية جميع احتياجاتها، فكان عليها الاختيار بين الأكل والنوم والطبابة. وهكذا، رويداً رويداً، فقدت منزلها وممتلكاتها وأصدقائها وانتهى بها المطاف مشرّدة.
منذ هذا اللقاء عام 2017 ومايا تسعى إلى مساعدة عائلات عدة إلا أنها أطلقت المنظمة والسوبرماركت المجاني رسمياً قبل بضعة أشهر. كل عائلة تأخذ بطاقة شهرية للحضور وانتقاء المنتجات التي تكفي شهراً كاملاً. وتحرص مايا على توفير أفضل المنتجات حتى تلك الخاصة لمن يعانون من داء السكري أو أمراض أخرى. ولتوفير الخدمات الطبية، تعوّل مايا على أصدقائها من الأطباء والقيميّن على المستشفيات إلا أن أكثر ما تركّز عليه هو طب الأسنان. وتطلعنا «نحن نبدأ بالأسنان لأن غالبيتهم فقدوها. وبالتالي، هذا يكسبهم مظهراً جيداً وشعوراً أفضل والقدرة على الأكل».
روزا التي أعدت لنا القهوة هي من بين الذين حصلوا على ابتسامة جديدة حتى لو أنها نادراً ما تضحك. فعلى الرغم من حزنها، هي التي فقدت ابنها البالغ من العمر 55 عاماً قبل سنة تقريباً، تتحلى بخفة الدم وصلابة الشخصية. روزا البالغة من العمر 79 سنة ونصف (كما تصرّ!) توفّي زوجها بعد عشر سنوات من الزواج. حينها «لم أترك بيت في لبنان لم أعمل فيه، أمسح، أجلي، أطبخ، أكوي. ربّيت 3 بنات وصبي كبرتهم وعلّمتهم». ربتهم في غرفة قريبة من السوبرماركت ما زالت تسكن فيها مع إحدى بناتها حيث المطبخ والحمام في الخارج.
على الرغم من الصعاب، تبقى أمنيتها واحدة. «أنا أتيت إلى هنا خجلة، لأنني لم أتسوّل أو أمد يدي لأحد، أنا أمد يدي فقط لله. ولكن، أريد أن يكون لدى ابنتي غرفة ومطبخ وحمام حتى إذا لم أكن إلى جانبها يوماً، تبقى داخل المنزل ولا تعمل في الخارج».

وهنا تتدخّل مايا وتطمئنها «لا تخافي، لا أحد سيترك ابنتك» لتخبرنا أن روزا على لائحة الذين سيقومون بتحسين منازلهم. فلا تنسوا أن «بيت البركة» يهتم أيضاً بإعادة تأهيل المنازل.
وتخبرنا مايا «معظم البيوت التي نصلحها لا يوجد فيها ماء أو كهرباء أو قساطل.. أشياء لا تصدّق». وخلال الحديث، يدخل ريتا وجورج اللذان لا يتوقفان عن الحديث عن منزلهما الذي تحوّل من خربة إلى جنة. ريتا (46 سنة) تهتمّ بالأطفال وتعلم اللغة الفرنسية والإنجليزية في حين أن جورج عاطل عن العمل. يعيشان على راتب ريتا الذي لا يتعدى الـ50 دولارا شهرياً! تخبرنا ريتا عن عجزها عن دفع فواتير الكهرباء أو الماء ليُقاطعها جورج قائلاً «في فصل الصيف، أنقل 31 قنينة مياه على الطابق الثامن حتى نتمكن من الاستحمام». وتضحك ريتا «أحياناً، واحد منا يقف على السلم والآخر يقف في الأعلى، ونفرغ قناني الماء».

بين العفن وغياب النوافذ أو الحنفيات أو حتى سقف جيد، لا تعرف ريتا كيف تصف منزلها. إلا أنها اليوم، سعيدة بالنتيجة وتعود يومياً لتجلس على الشرفة لشرب القهوة مع أخيها. كما أنها بدأت تهتم بصحتها وتبقى أمنيتها الوحيدة «إيجاد عمل لأخي كي ترتاح أعصابه!».
كل من هؤلاء يتميّز بأنه لا يطمح إلى الكثير لا بل حياة كريمة ولقمة عيش.. أي أبسط حقوق أي إنسان. كما أنهم يفاجؤنك بحبهم لمساعدة الغير. وتخبرنا مايا أن الأصغر سناً غالباً ما يساعدون الأكبر سناً، سواء بإعداد الطعام لهم أم بالحضور إلى السوبرماركت لانتقاء أغراضهم.

ولا يكتمل هذا اللقاء إلا بجولة على أحياء كرم الزيتون للتعرف إلى بعض المستفيدين من «بيت البركة». ولا يسعنا أن نبدأ جولتنا إلا من بيت روزا التي أصرت على زيارته؛ غرفة صغيرة بغاية النظافة والترتيب تتساءل كيف أنها ربّت أربعة أولاد فيها!
ونصل إلى بيت أم نبيل وتخبرنا مايا «هي التالية التي سنصلح لها بيتها، هي كانت تملك مع زوجها محلاً للخضار وكانت حياتهم جيدة ولديهم طفل مريض. بعد وفاة زوجها ومعظم أقربائها، على غرار معظم الناس الذين نساعدهم، وجدت نفسها وحدها».

غرفة صغيرة تعجّ بمئات الأشياء وتأوي أم نبيل ونبيل المريض ورائحة سترافقني طوال أيام. أم نبيل مليئة بالمرارة ولا تتوقف عن القول «هذه هي الآخرة» إلا أن أحداً لا يلومها ولا حتى مرال، السيدة الأرمنية التي تهتمّ بها. هي وزوجها ما زالوا بصحة جيدة يهتمّون بعدد من العائلات الكبيرة بالعمر، ومن بينها إم نبيل.
ولا يسعنا أن ننهي جولتنا إلا بالتوقف عند مارسيل التي تستقبلنا بصوت عالٍ وابتسامة معدية أمام غرفتها «الأكثر من صغيرة» التي تفوح منها رائحة منظف الملابس وأجواء من الاكتفاء والقناعة.

قصة مارسيل تحتاج إلى مقال آخر هي التي انقلبت حياتها رأساً على عقب منذ سفرها إلى الخارج حيث علّمت في إحدى المدارس وتزوجت من رجل أخذ منها كل أموالها وممتلكاتها. وعانت الأمرين من اكتئاب وحادث طرحها الفراش لأشهر طويلة ما أجبرها على التوقف عن العمل. وتخبرنا «تخيلي كنت أقطع تذكرة أعمال لأتي وأمضي يوماً واحداً في لبنان. وأنظري اليوم، عانيت الكثير ولكن يجب أن تكتفي بما لديك وإلا تموتين».

قصة مارسيل وشقيقتيها هي خير مثال عن هؤلاء المواطنين الذين تعبوا طوال حياتهم ليوفّروا مستوى جيدا لأنفسهم قبل أن ينهار كل شيء. وحينها، تنضم إلينا شقيقتيها عايدة التي تعمل في السوبرماركت والتي تعرفت عليها سابقاً هي التي عاشت كل حياتها في فرنسا، ربت ولديها بمفردها وعلمّت وقررت العودة لتكبر بجانب شقيقتيها ولكن من دون أي مردود.

يطول الحديث مع عايدة ومارسيل التي تواصل النكات والضحك بين قصة حزينة وأخرى أكثر حزناً لينتابك شعور بأنك تريد أن تغمر كل شخص من الذين التقيتهم فقط لتعتذر منهم عن قسوة هذه الحياة فتعود وتبتسم لوجود جمعيات تسعى إلى تحسين حياتهم ولو قليلاً مثل «بيت البركة».
نعود أدراجنا إلى السوبرماركت التي خلت من الزوار لتقول لنا مايا «العمل الذي نقوم به هو العمل المترتب على الدولة في أي بلد آخر، فمن المفترض ألا يهاتفني شخص ما ويسألني أنا أين سيذهب يتداوى وهو عمره 90 سنة». لكنها، على الأقل، تحاول.

محررة موضوعات إجتماعية