الحزن والشجن في الطرب العراقي

مقالات رأي و تحليلات الأحد ٣٠/يونيو/٢٠١٩ ١٣:٠٧ م

أحمد المرشد

اعتدت في كتاباتي أن اتحدث عن الحب في أغاني أم كلثوم أو عند الشعراء المصريين، ففي مصر تعلمنا لغة الحب الجميل والبسيط، الحب من أجل الحب، ولكنني اليوم سوف أعرج علي العراق، هذا البلد الجميل الذي تتسم لهجة أهله بالحلاوة، وكذلك كلمات شعرائه الكبار حيث تغنوا بالحب والجمال، ونحن في الخليج نعشق هذه اللهجة البسيطة وحبهم وأغاني عشقهم، ومن أشهر من تغني بهذه الأغاني حضيري بوعزيز وناظم الغزالي وكثيرون غيرهم لا أستطيع حصرهم، ولكن سأورد بعضهم. ولدينا مطربهم الكبير كاظم الساهر الذي أصبح من عشاق الملايين، وماجد المهندس وفؤاد سالم..فكلماتهم تشعرك بأصالة هذا البلد الذي يحبه الجميع وتدخل لهجة أهله القلوب بدون مقدمات ونحس معها بنسائم لطيفة. للعراق وأهله محبة خاصة في قلبي، فهو بلد عروبي، شعبه عروبي..كان لابد من هذه المقدمة حتي نبتعد عن مناقشة الأمور السياسية في العراق ولنعد الي موضوعنا موضوع قصص الحب الرائعة التي لا زالت تحتفظ بحبها من عشاقها.

وينسب العراقيون الي محمد عبد الوهاب نقلا عن إحدى المقابلات الصحفية في الستينيات، قوله إن معظم الأغاني العربية تدور في فلك الأغنية المصرية باستثناء الغناء العراقي، لما يتميز به من خصوصية كاملة نابعة من الروح والحنجرة والنغمة المرتبطة بالمكان بما يجعلها خارجة منه وليست آتية إليه من المحيط الجغرافي القريب أو البعيد. وتعود هذه الحقيقة الي أن المطرب العراقي لا يغني لأجل الغناء وإنما يعبر عن حالته الحقيقية وهو جزء من أسباب التفرد التاريخي في التعبير، ولهذا اتسم الغناء العراقي في الماضي بالتعبير عن الفرح أو الحزن والشجن، وكانت كلمات الأغاني نابعة من الحياة الصعبة، وعبر الغناء وقتها عن طقس ما بروح الفرح أو الحزن. ولهذا يقول العراقيون إن مطربيهم في الماضي كانوا يعبرون عن حالة حزن شديدة تماثل غناء فريد الأطرش الذي عبر بأغانيه عن حالة اغتراب وشقيقته أسهمان ولم يستطع التخلص من حزنه طوال حياته الفنية، كذلك المطرب عبد الحليم حافظ الذي عبر عن مرضه بأغانيه الحزينة. حتي أن ناظم الغزالي لم يتخلص من حالة الحزن في أغانيه رغم أناقته ولغته الموسيقية الحديثة ورحلاته العربية إذ بقي وفيا لحزنه تعبيرا عن نشأته الصعبة في كنف أم كفيفة ومعاناة معيشية ثم أصبح بلا أب وأم وهو لا يزال طفلا لتخرج أغانيه صورة طبق الأصل من حياته التي عاني فيها الحرمان والعزلة.

ويكفي عالم الغناء العراقي تميزه بفولكلوره الجميل الذي أخرج لنا رائعته «ميحانه ميحانه» التي تعبر عن فن العراق الذهبي، للأغنية قصة شهيرة يحفظها العراقيون أو علي الأقل أجيالهم الماضية ونحن معهم بالتأكيد. فكلمات الأغنية مستوحاة من قصة حب حقيقية ومؤثرة من التراث العراقي، وكيف أحبت فتاة ريفية شابا بالقرية لتظل وفية له بعد موته المفاجئ لتحفظ الأجيال المتعاقبة قصة الحب الخالدة ذائعة الصيت في العراق والوطن العربي ويغنيها معظم مطربي العراقي تقريبا وأشهرهم بطبيعة الحالي ناظم الغزالي وكاظم الساهر باعتبارها فولكلورا عراقيا خالصا.

وتروي القصة باختصار أن شابا من مدينة (المسيب) التي يشطرها نهر الفرات نصفين بين مدن بغداد وكربلاء والحلة، كان يملك قاربا صغيرا يجوب به النهر وينقل فيه الحيوانات والحبوب وغيرها. وأعتاد الشاب أثناء عمله الغناء بصوته الجميل وانبهر به السكان الذين كانوا ينتظرونه علي ضفة النهر ليستمعوا لصوته ويستمتعون به، وكان من ضمن معجبيه فتاة تعلق قلبها به فنشأت قصة حب شديدة بينهما وكانت تنتظره علي شاطئ النهر قبل أن تغسل الأواني وتنقل المياه الي منزلها. وقد علمت بقصة الحب هذه صديقة الفتاة واسمها «ميحانه» وبعد فترة من الزمن مات الشاب في حادثة مفاجئة فحزنت حبيبته حزنا شديدا، وذات يوم ذهبت كعادتها لضفة النهر لتغسل الأواني وتملأ المياه قبل عودتها لمنزلها فلمحت قارب حبيبها الذي كان قرب جسر المسيب التاريخي، فمر القارب بدون غناء صاحبه ومن صوته الجميل الذي يأسر القلوب، فأحزنها المشهد الصامت لتطفو ذكرياتها وتلتفت الي صديقتها ميحانه وقد اقتربت الشمس من المغيب وأنشدت الفتاة منادية صديقتها:
ميحانه ميحانه... ميحانه ميحانه
غابت الشمس وللحين ما جانه
حيك.. حيك بابه حيك .. الف رحمه على بيك
هذوله العذبوني .. هذوله المرمروني
وعلى جسر المسيب سيبوني

تربي جيلنا ومن سبقنا علي غناء المطرب العراقي ناظم الغزالي الذي صال وجال في عالم الغناء وأبدع في نقل قصائد الحب والهوي، وهو أيضا من أشهر مطربي العرب في زمانه، فتمني المطرب محمد عبد الوهاب التعاون معه والتلحين له ولكن لم تسمح الظروف باتمام التعاون بينهما. وكما هو حاصل حاليا مع كاظم الساهر سفير العراق للعرب جميعا، كان الوضع ذاته مع الغزالي إذ احتل لقب سفير الأغنية العراقية للعرب، لتظل أغانيه حاضرة في ذاكرة الأجيال تحكي زمن الفن الجميل كونها نبعت من بيئة ذات طبيعة شديدة الخصوصية، مثل «طالعة من بيت أبوها»، و»ماريده الغلوبي»، و»أحبك»، و»فوق النخل فوق»، و»يم العيون السود». ويعزو النقاد نجاح أغنيات الغزالي في الوطن العربي الي أنه أدي أغانيه بعذوبة شديدة وخرج بها عن الأصول المتبعة ليجعل منها أغنية سهلة التداول والحفظ. ومن أشهر أغاني الغزالي الذي اشتهر بإلقاء الموال (ميحانه ميحانهعيرتني بالشيب يا أم العيون السود ماجوزن أنا) وغيرها من الأغنيات التي حفظها الكبار والصغار عن ظهر قلب..وننقل هنا كلمات أغنية «أم العيون السود»:
يام العيون السود ماجوزن أنا

خدك القيمر أنا أتريق منه
لابسه الفستان وقالت لي أنا
أما كاظم الساهر نجم العراق والعرب حاليا فهو الذي حلق بالأغنية العراقية في أفاق الشهرة التي تخطت حدود الوطن العربي، ليكون مع قصائد نزار قباني وعلي رأسها «في مدرسة الحب» ثنائيا فنيا غنائيا مبدعا عشقه العرب المحبين للفن والموسيقي وتمايلوا مع آهاته ونغماته، فهو عاشق للحب ولمس بأدائه قلوب العشاق وكان خياله واسعا ليداعب به أذان المحبين.

من المؤكد أن الأغنية العراقية تاريخيا قد تميزت بميزة مهمة جدا إذ تعتبر علامة فارقة من علامات الحضارة العراقية القديمة وأحد أعمدتها، وبرزت منه الموسيقى التي تعرف بأنها «موسيقى الرافدين» أو «موسيقى بلاد ما بين النهرين»، ومنها الحضارة السومرية كإحدى علامات توضيح حبّ العراقيين للموسيقى والغناء، حتي وإن شكل الحزن والشجن والأنين جزءا كبيرا من الأغنية قديما وكانت تلك الألوان غالبة علي الأغنية وشبه ملازما لها، وكان يتطلب في حنجرة المطرب قديما القدرة علي أداء المقامات الحزينة التي تجذب المستمعين ليتفاعلوا مع ما يؤديه من غناء. ولكن شكل الغناء والموسيقي تطور بصورة كبيرة في القرن العشرين ليجذب الكثير من المطربين والملحنين الذين أضافوا للأغنية الكثير.

كاتب ومحلل سياسي بحريني