مرتضى بن حسن بن علي
بدأت المراكز الوطنية للتشغيل بالظهور في أواخر القرن الثامن عشر لمواجهة آثار الثورة الصناعية الأولى في بريطانيا وانتشارها تاليا إلى الدول الاخرى، مُحدثة تأثيرات جذرية في مختلف جوانب الحياة، وأعادت بناء سوق العمل من جديد. وبعد ان فقد عشرات الالوف من العمال وظائفهم التقليدية، كان محتما عليهم، بعد عناد ورفض، ان يتدربوا للحصول على الوظائف وفقا للمهارات الجديدة المطلوبة. وكانت النتيجة ان ارتفعت إنتاجيتهم وزادت اجورهم وأصبحوا يتمتعون بأوقات اكثر للاستمتاع بأوقات فراغهم وتحسنت ظروفهم الحياتية. المراكز الوطنية للتشغيل موجودة الآن في عديد من الدول. وبالمقابل لا يوجد اهتمام كبير في الدول العربية لمثل هذه المراكز على غرار الاهتمام الموجود في الدول الاخرى، وان وُجد، فانها لا تقوم بما تقوم بها قريناتها في الدول المتقدمة.
المرسوم السلطاني السامي رقم 22/2019 بإنشــاء المركـــز الوطنــي للتشغيــل وإصــدار نظامـــه يشكل قفزة نوعية لتنظيم سوق العمل عن طريق التنسيق بين الجهات المختلفة المعنية.
مشكلة تراكم اعداد الباحثين عن عمل يمكن ايجاد حلول لها عن طريق التشخيص الدقيق لجوهر المشكلة وتجنب الحلول الإجرائية والإدارية الغريزية،واتخاذ خطوات عملية لاعادة هيكلة الاقتصاد ليكون متعدد المصادر وتحسين التعليم والتدريب وتغيير ثقافة العمل القائمة،عن طريق التأثير في السلوك الاجتماعي والعادات والتقاليد للأفراد وتنمية القيم الجديدة المطلوبة التي تجعل نشاطهم في انتاج السلع والخدمات متلائما مع ما هو المطلوب.
كل هذه العوامل تؤثر على تطور القوى الانتاجية وتقلل الاعتماد على القوى الوافدة ذات الانتاجية المنخفضة.نوعية الاقتصاد الذي اتبعناه ادى الى تذبذب معدلات النمو وتراجع الاستثمار،وضعف الانتاجية الكلية وتشجيع القطاعات كثيفة العمالة ذات الاجور المنخفضة والانتاجية المتدنية.وفي هذا الصدد،من الضروري ايضا مراجعة نظام التعمين الحالي والذي بدأ منذ التسعينات عندما كانت الظروف مختلفة ولم تكن اعداد الوافدين تتجاوز 600 الف عامل وافد.نظام التعمين الحالي،لم يعد قادرا على الاستدامة ويستوجب اعادة مناقشته،بعد ان تجاوز اعداد الوافدين المليون ونصف مليون عامل وافد حسب ارقام نهاية عام 2018.وفي الوقت الذي استهدفت رؤية 2020،ان تصل نسبة التعمين في القطاع الخاص الى 75٪ في 2020،نجد أنها انخفضت من 18.5٪ عام 2003 لتصل الى حدود 13٪ في الوقت الحاضر.هناك اسبابا عديدة لذلك ولكن أهمها ان شروط الوصول الى ذلك لم تنفذ.
من المهم ايضا الانتباه ان بذل الجهود لايجاد المهارات المطلوبة،يتطلب وجود قطاع خاص قوي ومتنامي ومنتج وذات انشطة متعددة،وتكون خدماته قادرة على التداول مثل السياحة. كل ذلك سوف يساعد على ايجاد عشرات الالوف من فرص العمل.وبغياب اقتصاد قوي ومنتج ومتنوع وقوانين عمل مرنة وإلغاء كل
ما يعيق تدفق الاستثمارات وايجاد بيئة صديقة للعمل، فان الجهود لن تصل الى اهدافها ولن تقدر على ايجاد حلول لمشكلة الباحثين عن عمل وتقديم اجور معقولة لهم، الان او مستقبلا.عديد من وظائف المستقبل تتطلب،قيام العامل بالانتقال بين الوظائف المختلفة وتغيير تخصصه اكثر من مرة عن طريق اعادة تدريبه على مهارات مختلفة.التحولات الواسعة والمتسارعة في العالم تتطلب اتخاذ خطوات عديدة وجريئة ومختلفة تماما من تلك التي تم اتباعها لحد الان.
المركز الوطني للتشغيل يقدر ايضا ان يساهم، بالتعاون مع الجهات المعنية الاخرى،على ايجاد مشروع وطني طموح للإصلاح الشامل للتعليم والتدريب وايجاد مواءمة ببن مخرجات التعليم العالي واحتياجات سوق العمل المتطورة ودراسة احتياجاته الحالية والمستقبلية.كما هناك ضرورة لإيجاد قاعدة متكاملة من المعلومات عن سوق العمل وتحليلها. فعلى سبيل المثال:
ما عدد الشركات المسجلة والعاملة؟وما هي درجاتها وأنشطتها وما نوعية العمالة الموجودة،الوطنية منها والوافدة،وما نسب توزيع اعداد الباحثين عن عمل حسب المحافظات والولايات المختلفة او حسب النوع؟ما نسب التعمين المعمول بها منذ عقود وما هي اسباب عدم الوصول اليها وهل يمكن الوصول اليها وكيف؟ هل الخلل موجود بسبب وضع تقديرات من دون تحليل للأرقام الموجودة والمتغيرة؟ ما اسباب تركز العمالة الوطنية في الشركات الكبرى التي تستوعب نحو 96 ٪ من العمالة الوطنية في الوقت التي تشكل نحو 5 ٪ فقط من اعداد الشركات العاملة؟من جهة اخرى تستوعب الشركات ما دون الدرجة الاولى والتي تبلغ نسبتها نحو 95٪ من مجموع الشركات العاملة اقل من 4 ٪ فقط من العمالة الوطنية؟ما هي اسباب الخلل؟ قد يكون مناسبا ايضا،ان يدرس المركز موضوع الاجازات الرسمية العديدة وتأثيرها على الانتاجية وتدفق مليارات الريالات الى الخارج ودراسة افضل الطرق لتقليل اعتماد القطاع الخاص على الانفاق الحكومي تدريجيا وتقوية امكانات القطاعات المالية والمصرفية لتلبية متطلبات القطاع الخاص،وايجاد تحولات جذرية في هيكلية الاقتصاد العُماني وتحويله الى اقتصاد متنوع لتوسيع القاعدة الانتاجية،وايجاد محركات النمو وتمكين الاستثمار المحلي والأجنبي من القيام بدور رائد والعمل على خلق المناخ الملائم لايجاد اقتصاد قادر على المنافسة.
تقليل العمالة الوافدة تحتاج الى اتباع مسارات مختلفة عن تلك المتبعة لحد الان،وعملية احلال العمانيين تحتاج بدورها الى طرق واساليب مختلفة أخرى.إن اكثرية العمالة الوافدة والوطنية الان هي ذات مستويات تعليمية اقل من المستوى الجامعي كما ان مستويات مهاراتها وإنتاجيتها ليست كبيرة.كل ذلك يعكس نوعية الاقتصاد الريعي غير الانتاجي السائد. كما ان تهيئة القطاع الخاص لاستلام دوره القيادي في عملية التنمية الاقتصادية وتوفير فرص العمل للخريجين الجدد ولا سيما من خريجي التعليم العالي، يتطلب سياسات موجهة نحو اعادة تكييف الطلب على العمل وايجاد طلب على العمالة الماهرة جدا وخريجين ذات مستويات تعليمية وتدريبية ممتازة.هذه مسألة ذات بعدين،اقتصادي واجتماعي في نفس الوقت.البعد الاقتصادي يكمن في الأهمية الحاسمة لعنصر إنتاجية العمل في تحديد درجة تنافسية الاقتصاد الوطني.اعتماد القطاع الخاص على عمالة وافدة والتي تفتقد المهارات العالية،لها اسباب موضوعية عديدة،ومنها ان العملية أرخص له من تكلفة الاستثمار في وسائل انتاج ذات كثافة رأسمالية عالية ولكن تحتاج الى عمالة متدربة وكفؤة ولكن باعداد اقل من تلك التي يستخدمها الان. والسياسات القائمة الان تشجعه على ذلك.
من الضروري ايضا للمركز الجديد مساعدة الشركات الصغيرة والمتوسطة والاستفادة من الكم الهائل من المعلومات المتوفرة عن هذا الموضوع،ودراسة اسباب تعثر عدد منها وايجاد الحلول المناسبة للمشكلة،والتأكد من تفرغ صاحب المشروع للعمل وتعريضه الى دروس تدريبية وتعليمية في كيفية ادارة الشركة ومسك الدفاتر وقرأة الميزانية وبعض الأمور المالية الاساسية، اضافة إلى التنسيق بين البنك المركزي والبنوك العاملة الأخرى لتقديم التسهيلات المناسبة.
في الأخير لا بد ان يكون الهدف الذي يسعى اليه المركز منسجما مع ما أعلنه المجلس الاعلى للتخطيط في احدى دراساته:
«سوق عمل جاذب للكفاءات ومتفاعل ومواكب التغيرات الديموغرافية والاقتصادية والمعرفية والتقنية،ضمن سياسات استقطاب واضحة المعالم والمعايير ومنظومة تشغيل وتأهيل وترقيات وحوافز مبنية على الكفاءات والإنتاجية تزكي روح المبادرة والابتكار وقوانين وتشريعات ناظمة لسوق العمل وفق معايير مهنية وبيئة عمل حافزة ومستجيبة للمتغيرات ومؤشرات أدائه كنسبة القوى العاملة عالية المهارة من اجمالي القوى العاملة وانتاجية القوى العاملة حصة القوى العاملة العمانية من اجمالي الوظائف المستحدثة».