حدث في السيب..

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ٠٨/مايو/٢٠١٩ ١٣:٠٨ م
حدث في السيب..

لميس ضيف
في سابقة ليست غريبة على السلطنة وأهلها، وقف أحد المتهمين أمام قاضٍ في محكمة السيب متهما بالسرقة، بعد أن خاض مراحل التحقيق كافة ابتداءً من الشرطة مرورا بالادعاء العام حتى المحكمة المختصة وثبتت عليه السرقة. ولكن القاضي لم يأمر باستمرار حبسه، ولم ينف التهمة عنه أيضا؛ بل عرض التسوية من جيبه الخاص ليخلّص هذا الرجل من وجع الحياة خلف قضبان السجون في الليالي الموحشة المشبعة برائحة الندم السامة.
أما لماذا فعل هذا القاضي الشهم ذلك فهو ما ستعرفونه من خلال السطور القادمة: ففي التفاصيل قصد هذا الرجل أحد مراكز التسوّق المعروفة بالسيب وملأ عربة التسوّق من احتياجاته ثم تسلل لسيارته متفاديا مناضد الدفع والحراس، تقدم المركز بشكوى مشفوعاً بتسجيلات كاميرات المراقبة التي كشفت وجهه بل ورقم مركبته وتم القبض عليه سريعا. لم ينكر الرجل التهمة؛ ولم يتذرع بالنسيان كغيره، بل قال بأن الحاجة هي الجاني الحقيقي وأن صوت حاجة عائلته الكبيرة قد طغى على وخز ضميره وصوت خوفه.
مبرراته تلك لم تدفع المركز التجاري للتنازل، ولم تعرقل سير عجلة القضية التي سحقت معنوياته، وبعد 40 يوما في الحبس الاحتياطي وقف الرجل أمام القاضي منهارا، فلما تصفح القاضي لائحة «المسروقات» فوجدها عبارة عن مواد غذائية أولية ومتطلبات عائلية لم يتقبل هوان رجل، فسدد كل ما عليه ليطلق سراحه إيمانا منه بأنه ليس مجرماً بل رب أسرة قهرته ظروفه. وقد سمعت عن موقف مشابه مؤخرا، إذ تم القبض على أحدهم في نقطة تفتيش ليلة رمضان لصدور أمر بالتنفيذ عليه لتخلّفه عن تسديد إيجارات متراكمة، فلما علم صاحب العقار أن المؤجر فقد عمله مؤخرا أعطاه فرصة رغم أن القضية كان قد صدر فيها حكم نهائي وأخذت مجراها على مدار عام.
هذا هو العدل يا سادة؛ فالقانون وُجد لتنظيم حياة البشر بقوانين صيغت على شكل قوالب صماء لا عين لها لتفرّق بين القضايا. وهنا يأتي دور القضاة الذين تُناط بهم مهمّة قراءة الدوافع وتفنيد منطلقات الفعل. علما بأن السجن -وإن كان دار تأديب وإصلاح للغالبية- فهو أيضا دار هدم لمن لم تتأصل الجريمة في نفسه؛ فهم يعاشرون في السجون المدمنين والجناة ويتشرّبون طباعهم، كما أن رهبة الحبس تُكسر في نفوسهم مع مرور الوقت. لذا يرى الكثير من باحثي العلوم الجنائية أن العقوبات البديلة يجب أن تطبَّق على نحو واسع في الحالات التي لا يثبت فيها تأصل الإجرام في نفس نفس الجاني.
نافلة القول: إن روح القانون هي أكثر وجوه العدالة صدقا، وإن الدنيا بخير دامها تزخر بمن يدركون ذلك. فبارك الله في هذا القاضي وأمثاله، وما طبّقه هو مبدأ سامٍ يجب أن يحكم تصرفات الجميع بمن فيهم أصحاب الحقوق الذين يجب ألا يتعسفوا في المطالبة بحقوقهم إن كانوا يدركون أن من تهاون في تسديد التزاماته ليس بمعتدٍ بقدر ما هو ضحية لظروف قاسية فشل في ترويضها.