عمانيون تحت الحماية الفرنسية.. مشكلة وصلت لمحكمة لاهاي الدولية

بلادنا الخميس ٠٢/مايو/٢٠١٩ ١٣:٠٣ م
عمانيون تحت الحماية الفرنسية.. مشكلة وصلت لمحكمة لاهاي الدولية

إعداد: نصر البوسعيدي
في القرن الثامن عشر ميلادي وحينما كان الصراع الإنجليزي الفرنسي الاستعماري على أشده في شرق أفريقيا والخليج العربي، كان أهل عُمان بين مطرقة الإنجليز والفرنسيين وخاصة فيما يتعلق بنشاط التجارة البحري والذي كان أهم أركان الاقتصاد العماني سواء للسلطة الحاكمة أو للتجار والذين كان أغلبهم وأشهرهم أهالي مدينة صور العمانية التي بناها الفينيقيون قبل آلاف السنين.
كان سلاطين عُمان حينها يميلون بشكل أكبر للتحالف مع الإنجليز كقوة فرضت نفسها في المنطقة والتي كانت أصلا تعاني من انقسامات وصراعات فيما بينها وهذا هو حال كل الدول العربية.
لذا كانت فرنسا تحاول جاهدة أن تنال امتيازات عمانية حالها من حال بريطانيا رغم كل العراقيل التي مارسها الإنجليز ضد الوجود الفرنسي في عُمان وما جاورها، ورغم ذلك استطاعت فرنسا أن توقّع اتفاقية مع السيد سعيد بن سلطان البوسعيدي عام 1844م، وتمت مصادقتها بمرسوم من الملك الفرنسي لويس فيليب عام 1846م، وكانت من نتائج هذه المعاهدة أن منحت الفرنسيين قنصلاً يمثلهم في زنجبار وحق تملّك الأراضي والتجارة والتنقّل بين الموانئ العمانية، وكذلك بالنسبة للجانب العماني وامتيازاته في الأراضي الفرنسية.
ولأن جزر القمر وبعضاً من مدغشقر كانت تحت السيادة العمانية، فقد كان التجار العمانيون يصولون ويجولون في تلك الأنحاء باسم الإمبراطورية العمانية، ولكن ما إن احتلت فرنسا مدغشقر وجزيرة مايوت القمرية عام 1841م، حتى تغيّرت الأوضاع وحاولت فرنسا أن تنظم التجارة في ممتلكاتها الاستعمارية الجديدة مع استثمار العلاقة الودية بينها وبين تجار عُمان الذين أخذوا يبغضون التسلط الإنجليزي على تجارتهم وتفتيشهم الدائم لسفنهم بتهم محاربة الرقيق وتجارة السلاح والخ، فقد ارتأى بعض العمانيين من أهالي صور استثمار العلاقات الفرنسية العمانية وهذا التقارب للخلاص من الإنجليز وذلك بالانضمام للجانب الفرنسي والانحياز له ولحمايته من خلال رفع الأعلام الفرنسية في السفن العمانية والتي كانت من خلال رفعها للعلم الفرنسي تحظى بحمايتهم وعدم مقدرة القوات الإنجليزية على تفتيشها أو إيقافها أو مصادرة حمولتها وذلك منذ عام 1845م تقريبا، واستطاعت فرنسا أن توثّق ذلك بمنح عدد كبير من السفن العمانية وملّاكها حق الرعاية الفرنسية وحمايتها ورفع أعلامها خلال رحلات تجارتهم، مما أثار بريطانيا كثيرا وخاصة بعد وفاة السيد سعيد بن سلطان وانقسام امبراطوريته بين أبنائه بعد اختلافهم على السلطة، مما أدّى ذلك إلى أن توقّع فرنسا وبريطانيا اتفاقية في عام 1867م تنصّ في مجملها على اتفاقية تفتيش السفن في خطوط التجارة المعروفة آنذاك ومن أهمهما أن السفن الحربية لها الحق في التأكد من صحة الأوراق الرسمية لجنسية السفينة إن كان هناك شك في ذلك، كما أن السفن التي لا تستجيب تتعرّض للقصف بعد تحذيرها مرارا وتكرارا للتوقف وإبراز أوراقها.
ورغم كل هذه المعاهدات إلا أن بريطانيا كان لديها الإصرار الكبير لمحاربة التجار العمانيين وبالتالي إضعاف خزينة السلطان والبلاد وبالتالي يسهل عليها السيطرة على القرار السياسي والتحكم بموارد البلاد وإجبار السلطات الحاكمة على توقيع معاهدات عديدة تضمن من خلالها مصالحها مع ضرب المصالح الفرنسية في المنطقة، فوقّعت بذلك معاهدة أخرى مع السيد تركي بن سعيد بن سلطان عام 1873م لمحاربة تجارة الرقيق ومنع أي سفينة تصل إلى موانئ مسقط وهي تمارس هذا النوع من التجارة، ومن يخالف ذلك سيتعرّض لمصادرة سفنه وتدميرها وإنزال أشد العقوبات على أصحابها.
ومما عزّز موقف بريطانيا في هذا الجانب وسلطتها في المنطقة هو مؤتمر بروكسل الذي نصّ على أكثر من 100 قانون في محاربة تجارة الرقيق والأسلحة، فمسقط مثلا كانت سوقا رائجا جدا لتجارة الأسلحة والتي كانت سبب ثراء خزانة الدولة والكثير من التجار حتى تم إيقافها من قبل الإنجليز بعد هذا المؤتمر الذي رفضت فرنسا بعض بنوده رفضا باتا مخالفة الاجتماع الدولي في ذلك، مما أدّى إلى رغبة كبيرة من التجار العمانيين الانضمام إليها والسماح لهم برفع الأعلام الفرنسية على سفنهم ويصبحوا بموجب ذلك من رعاياهم ضد الإنجليز.
رافق كل ذلك تحوّل مهم في العلاقات الدبلوماسية العمانية الفرنسية مع السلطان فيصل بن تركي الذي استقبل ببارجة حربية ورسالة رسمية من الجانب الفرنسي بتقبل أوتافي كنائب للقنصل الفرنسي في مسقط عام 1894م والذي استطاع بدبلوماسية عالية أن يحصل من السلطان فيصل بن تركي على منزل من أجمل منازل مسقط ليصبح مقرا للقنصلية الفرنسية المعروف ببيت فرنسا وحاليا المتحف الفرنسي العماني. كانت مهمات أوتافي تتمثل بشكل خاص في مراقبة المصالح الفرنسية التجارية في الموانئ العمانية، والإشراف على السفن العمانية التي تحمل الأعلام الفرنسية خاصة سفن أهالي صور الذين يمثّلون الأكثرية، لذلك لا غرابة أن نجد البارجة الفرنسية (لوترود) تذهب متوجهة إلى مدينة صور لتجد الترحاب من قبل الأهالي لتتوالى فيما بعد ومنذ عام 1895م وما تلاها زيارة أكثر من بارجة فرنسية لأهالي صور لمتابعة رعاياهم العمانيين الذين يحملون الأعلام الفرنسية في سفنهم. تنامي الوجود الفرنسي بهذا الشكل أغضب الإنجليز كثيرا والذين بدورهم أخذوا يمارسون كل ضغوطاتهم مع السلطان فيصل بن تركي ليمنع مواطنيه وبالأخص أهالي صور من رفع العلم الفرنسي، وبالفعل لبى السلطان بعد ضغوطات كبيرة طلب الإنجليز وبدأ يخاطب أهالي ولاية صور بعدم رفع الأعلام الفرنسية كونها مخالفة للقوانين التي نصّت عليها اتفاقية بروكسل وأن هذه السفن متهمة دوما بتجارة الرقيق مثلما يسوق الإنجليز ادّعاءاتهم للحد من النفوذ الفرنسي في مسقط.
تأزم الوضع وطلب القنصل الفرنسي أوتافي لقاء السلطان فيصل ليشرح له شرعية الرعايا الفرنسيين من أهل عمان بحملهم للأعلام الفرنسية ليتفهم السلطان كل ذلك ويمنحهم مخزنا للفحم في بندر الجصة، ولكن بريطانيا لم تصمت بل مارست تهديداتها العلنية للسلطان فيصل بضرورة الامتثال لمنع العمانيين من رفع الأعلام الفرنسية وإلغاء امتياز الفرنسيين بالنسبة لمخزن الفحم المشار إليه، ليقع السلطان بين ضغوط دولتين لا يريد أن يفقد صداقة أحدهما ولا يدخل في صدام مباشر معهما. اضطر السلطان فيصل في الأخير نتيجة الضغوطات البريطانية الكبيرة وعدم مساعدة الحكومة الفرنسية له، لأنْ يمتثل لهذه الضغوط ويأمر أهالي ولاية صور تحديدا بعدم رفع العلم الفرنسي في سفنهم عام 1900م، كما أنه توجه شخصيا إلى صور لذات الغرض وإقناع الأهالي بضرورة الامتثال لهذا الأمر.
لم ينتهِ الأمر بل تأزم أكثر بين الإنجليز والفرنسيين من جهة وبين السلطان والكثير من التجار العمانيين من أهالي صور المتمسكين بالعلم الفرنسي، لتصل هذه المسألة إلى محكمة لاهاي الدولية عام 1904م، لتصدر المحكمة حكمها عام 1905م ونصّ على أن العمانيين الذين مُنحوا من الحكومة الفرنسية حق رفع أعلامها على سفنهم ما قبل صدور قانون بروكسل عام 1892م، وأن الأشخاص الذين تم تحديدهم برفع الأعلام الفرنسية يملكون هذا الحق ما داموا أحياء فقط ولا يجوز نقل هذا التصريح لشخص آخر لأي سبب من الأسباب، ليتمخض من هذا الحكم الدولي لقضية الأعلام الفرنسية والعمانيين أسماء وقوائم تحمل أسماء المواطنين المصرّح لهم برفع الأعلام الفرنسية والتي تم الإعلان عنها نهائيا للمجتمع الدولي عام 1908م والذي كان أغلبهم مثلما أشرنا أعلاه من مدينة صور وتجاوز العدد أكثر من 110 أشخاص نذكر منهم:
ناصر بن خميس المولود في صور عام 1849م وصاحب سفينة زنجبار - مسلم سالم المولود في مسقط وصاحب سفينة مبروكة - مسلم بن مسعود المخيني من أهالي صور ومات في مدغشقر - مسلم بن ربيع المخيني المولود في صور وكان قد أرسل للقنصل الفرنسي في مسقط رسالة يخبره برغبته في مواصلة رفعه للأعلام الفرنسية كوالده - محمد بن مبارك بن محمد بن جويد الغيلاني وكان يملك سفينة سمحان - مسلم بن حمد الكثيري من مواليد صور عام 1830م وتوفي عام 1918م وأحفاده يقيمون في صور وجزر القمر - محمد بن عبدالله الغيلاني المولود في صور عام 1874م، وتوفي عام 1917م وله مجموعة سفن منها السلامتي وفتح الخير والمستهل وفتح السلام وغيرها - محمد بن سليم ولد عبود الغيلاني وله سفينة سان جوزيف وفتح الخير وسمحان - محمد سالم من أهالي مسقط وكان يقيم في مدغشقر وله سفينة مبروكو - محمد بن راشد المالخي المولود في صور وله عدة سفن منها فتح الخير والسلامتي والسهيلة - محمد بن راشد الروتلي صوري المولد وصاحب سفينة سهالة - محمد بن راشد تاجر الكاكاو وصاحب السفينة المسماة سمحة - مبارك بن محمد العامري صاحب سفينة ياسمين وفتح السلام - السيد محمد من مدينة مرباط وصاحب سفينة مارسيليا - عمر بن سالم بن مبارك الذي ولد في مسقط عام 1868م، ويملك سفينة اسمها أوشاري - مبارك بن حمد بن راشد العريمي وله عدة سفن منها الخضراء والناصري - علي بن سالم بن محمد ود تعيب الذي ولد في السويق وكان يملك سفينة اسمها فتح الخير - السيد علي بن أحمد الذهب ولد في ظفار عام 1805م، ومات في صور عام 1878م، وقد كان يملك سفينة فتح الخير، وسفينة سمحان والناصري - عبدالله بن مسلم ولد في عام 1847م، وكان يملك سفينة اسمها الطاووس - عبدالله بن سعيد بن عبدالله الرزيقي العريمي عماني ولد في جزر القمر وله سفينة اسمها الرحماني - عبدالله بن خميس بن علي المخيني الذي اشتهر بأنه يملك العديد من السفن منها فتح الخير ومارسيل وسعد الكريم والهاشمي والطاووس وعطية الرحمن - عبدالرحمن حمدي من مواليد مسقط وكان يملك السفينة سلامة.
هناك الكثير من الأسماء والذين تجاوزتهم مخافة الإطالة ولكن جميعهم كانوا يعكسون كرههم للإنجليز واستثمارهم للصراع الفرنسي الإنجليزي في المنطقة بحمل الأعلام الفرنسية والدخول تحت الرعاية الفرنسية لتفادي كل من يحاول عرقلة نشاطهم التجاري والذي كانت تمارسه بريطانيا لأسباب عديدة جميعها تتعلّق بمصالحها البحتة دون أي منافسة. عموما استمر العمانيون برفع الأعلام الفرنسية حتى عام 1913 تقريبا وما تلاه من أعوام خاصة حينما بدأت فرنسا الانسحاب من الخليج وغلق القنصلية في مسقط عقب العلاقات الودية التي نشأت بينها وبين بريطانيا في تقاسم المناطق الاستعمارية آنذاك.

المرجع: مواقف القوى الكبرى من النشاط الملاحي لمدينة صور العفية (1888-1913م)، رسالة دكتوراه الفلسفة في التاريخ، ناصر بن سعيد بن مبارك العتيقي، قسم التاريخ - كلية الآداب والعلوم الاجتماعية - جامعة السلطان قابوس - سلطنة عُمان 2018م.