جذور هيمنة اليمين في إسرائيل

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ٢٤/أبريل/٢٠١٩ ١٢:٢١ م
جذور هيمنة اليمين في إسرائيل

شلومو أفينيري
كان نجاح بنيامين نتنياهو الانتخابي الأخير، وفوزه بفترة ولاية خامسة كرئيس لوزراء إسرائيل، إنجازا غير عادي بكل المقاييس له ولحزبه اليميني الليكود. ويبدو أن اتهامات الفساد الجدية الخطيرة لم تنجح في تقليص شعبيته بين قاعدته الانتخابية، ومن الواضح أن علاقاته الوثيقة مع كل من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتن عززت مكانته في البلاد.
من الواضح أن ترامب ساعد حملة نتنياهو الانتخابية بإلغاء عقود من الزمن من السياسات الأميركية.
فهو لم يكتف بسحب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران والذي تفاوض عليه سلفه باراك أوباما، بل ونقل أيضا سفارة الولايات المتحدة إلى القدس، ثم قبل أيام قليلة من الانتخابات اعترف بالسيادة الإسرائيلية على هضبة الجولان.
ربما يستنكر كثيرون تكتيكات نتنياهو التي تقتدي بأساليب ترامب غرس الكراهية والخوف من أعداء حقيقيين ومتوهمين، والتشكيك في شرعية الصحافة، ومهاجمة السلطة القضائية لكن تكتيكاته كانت ناجحة رغم ذلك.
كما ساعدته براعته الانتخابية التي لا يمكن إنكارها في التغلب على التحدي المتمثل في حزب الأزرق والأبيض الذي تأسس حديثا بقيادة بيني جانتز، القائد العسكري السابق المحترم وإن كان بلا خبرة سياسية.
لم يكن من المستغرب أن يركز أغلب المعلقين على صفات نتنياهو الشخصية لتفسير ما بدا في نظر كثيرين انتصارا غير محتمل.
لكن الأمر لا يخلو من أسباب بنيوية تعمل على إبقاء حزب الليكود في السلطة: فاقتصاد إسرائيل في ازدهار، والتضخم أقل من 2%، ومعدلات الباحثين عن عمل عند مستويات متدنية تاريخيا.
هناك أيضا بعض الاتجاهات المؤثرة الأكثر عمقا، إلى جانب السياسة والاقتصاد.
الواقع أن جذور الطبيعة التاريخية الليبرالية والديمقراطية الاجتماعية التي تميز الدولة اليهودية تمتد إلى نظرة مؤسسيها للعالم في أوائل القرن العشرين.
كان القادة الصهاينة مثل حاييم فايتسمان، وديفيد بن جوريون، وجولدا مائير حريصين على المزاوجة بين فكرة تقرير المصير الوطني العلمانية للشعب اليهودي ورؤية العدالة الاجتماعية.
وفي ظل الضغوط الخارجية والداخلية، لم يكن فرض هذه القيم ناجحا دائما، وخاصة خلال الهجرة الجماعية بعد عام 1948، لكنها استمرت في تحديد إيديولوجية المجتمع الذي كان يعتبر نفسه يهوديا وديمقراطيا.
لم يعد كل الإسرائيليين يتشاطرون هذه النظرة للعالم.
كان نمو إسرائيل من أرض صغيرة يقطنها 650 ألفا من السكان اليهود عند تأسيسها إلى دولة مزدهرة يبلغ عدد سكانها اليوم ما يقرب من ثمانية ملايين شخص راجعا إلى تغيرات ديموغرافية عملت تدريجيا ولكن بشكل حاسم على تغيير البنية الاجتماعية والسياسية لإسرائيل. والآن بات من الواضح حجم التأثير الدرامي الذي خلفته هذه التغيرات.
يساعد مليون مهاجر من الاتحاد السوفييتي السابق الذين توافدوا منذ أواخر ثمانينيات القرن العشرين في إثراء العلوم والتكنولوجيا والموسيقى والثقافة الإسرائيلية.
لكن مواقفهم السياسية تعكس أيضا عقودا من الحياة في ظل الحكم السوفييتي: فرغم أن أغلبهم علمانيون، فإن كثيرين منهم يؤمنون بدولة قوية تحميها بنية قيادية هرمية، وهم لا يتسامحون إلا قليلا مع الغرباء أو الأعداء وكما أسر لي أحدهم ساخرا: «أنا لا أريد أن أعيش تحت حكم بوتن، لكني أريد أن يكون زعيمي مثل بوتن».ومن منظورهم، بدت روح الحركة الديمقراطية الاجتماعية الضعيفة التي تجسدت في الحركة العمالية في إسرائيل أشبه بالحركة البلشفية، وذكرتهم المزارع الجماعية اليهودية (الكيبوتس) بالمزارع التعاونية (الكلخوز) في الاتحاد السوفييتي. وعلى هذا فقد شعر كثيرون منهم بقدر أكبر كثيرا من الارتياح إزاء قومية نتنياهو القوية النشطة مقارنة بأولئك على اليسار الذين يناصرون حق الفلسطينيين في تقرير المصير.
على نحو مماثل، وجد المهاجرون الأقدم من شمال أفريقيا والشرق الأوسط اليهود الشرقيون (مزراحي) واليهود السفاردي، الذين يشكلون الآن ما يقرب من نصف سكان إسرائيل اليهود أن الروح العلمانية القائمة على المساواة التي تتبناها الحركة العمالية تتعارض بشدة مع تدينهم وقيمهم الأبوية.
وقد جلب كثيرون منهم معهم ذكريات القمع والظلم في بلدانهم.
وقد استفاد مناحيم بيجين، أول رئيس وزراء من حزب الليكود، من استياء هؤلاء المهاجرين من هيمنة المؤسسة اليسارية.
ولا يزال أحفادهم، إلى جانب المهاجرين من الاتحاد السوفييتي السابق، يشكلون العمود الفقري لدعم الليكود.
ونظرا لتحالف الليكود الطبيعي مع الأحزاب اليهودية الأرثوذكسية والأرثوذكسية المتطرفة، فقد اكتسب اليمين ميزة متأصلة لن تختفي عندما يغادر نتنياهو المشهد.
الواقع أن إسرائيل ليست في طريقها لتصبح «ديمقراطية غير ليبرالية» على غرار المجر، فلا تزال هياكلها وأعرافها الديمقراطية صامدة (وإن كان هذا الصمود سيخضع للاختبار في ظل محاولة الليكود الوشيكة لمنح نتنياهو الحصانة من اتهامات الفساد التي يواجهها). لكن الصروح المؤسسية التي جعلت قطاعاتها الليبرالية والديمقراطية الاجتماعية ذات يوم مهيمنة أُضعِفَت إلى حد كبير اليوم.
لقد عانى حزب العمل الذي قاد البلاد لعقود من الزمن من التآكل العام الذي أصاب قوى اليسار في الديمقراطيات الغربية حاليا.
وتزداد قوة هذه الاتجاهات بفِعل عجز القيادة الفلسطينية عن إقناع العديد من الإسرائيليين بأنها راغبة حقا في قبول الدولة اليهودية.
ولا تشجع السلطة الفلسطينية المزيد من الإسرائيليين على دعم حل الدولتين.
كما لا تبشر الحرب الأهلية الكامنة بين السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وحركة حماس التي تسيطر على غزة، بأي سلام مع إسرائيل في المستقبل.
ومع ذلك، تظل الحقيقة هي أن حزب الأزرق والأبيض بقيادة جانتز كاد يتعادل مع الليكود، ففاز بخمسة وثلاثين مقعدا من أصل 120 مقعدا في الكنيست (36 مقعدا لحزب الليكود).وإلى جانب حزب العمل المتضائل (ستة مقاعد) وحزب ميرتس اليساري الصغير (أربعة مقاعد)، يستطيع حزب الأزرق والأبيض أن يشن معارضة قوية لائتلاف نتنياهو اليميني القومي الديني، والذي سيسيطر على 65 مقعدا.
لكن معارضي نتنياهو لابد أن يتوصلوا إلى بدائل متماسكة لهجمات الليكود على الصحافة والسلطة القضائية إذا كانوا راغبين في استعادة ثِقَلهم المفقود في الانتخابات الأخيرة.
والحق أن العوامل الديموغرافية (التركيبة السكانية) لا تحابي بديل يسار الوسط في المستقبل القريب، لكن هذا ليس مستحيلا: فالناخبون منقسمون عند المنتصف بالضبط.

شلومو أفينيري هو أستاذ العلوم السياسية في الجامعة العبرية في القدس، ومدير عام سابق لوزارة الخارجية الإسرائيلية.