منذ الحرب الباردة

مقالات رأي و تحليلات الخميس ١١/أبريل/٢٠١٩ ١٢:٣١ م
منذ الحرب الباردة

بوجدان كليش

مع بلوغ حلف شمال الأطلسي عامه السبعين، يبدو أنه يواجه التحديات الأشد قسوة منذ وضعت الحرب الباردة أوزارها قبل ما يقرب من الثلاثين عاما. تعرّض الحلف لهزة بفعل ضم روسيا شبه جزيرة القرم بشكل غير مشروع وغزو إقليم دونباس في شرق أوكرانيا؛ وانتقادات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب اللاذعة؛ وتحول المملكة المتحدة إلى إنجلترا الصغيرة بفعل مسألة الانسحاب من الاتحاد الأوروبي. ولكن على الرغم من هذه النكسات، نجح حلف شمال الأطلسي إلى حد كبير في تعزيز التزامه بأوروبا الوسطى والشرقية في السنوات الأخيرة. غير أنه يحتاج رغم ذلك إلى بذل المزيد من الجهد.

صحيح أن الولايات المتحدة وحلفاءها الأوروبيين في حلف شمال الأطلسي يختلفون حول قضايا مهمة مثل الإنفاق الدفاعي، والتجارة، وتغيّر المناخ، والاتفاق النووي مع إيران في العام 2015، كما أقرّ الأمين العام الحالي للحلف، جينس ستولتنبرج، خلال زيارة قام بها مؤخرا إلى وارسو. ولكن كما أشار ستولتنبرج عن حق، فإن التعاون العسكري في إطار حلف شمال الأطلسي أفضل مما كان عليه طوال سنوات. ربما يكون بوسعنا أن نقول إن «مفارقة ستولتنبرج» هذه تتجلى بأكبر قدر من الوضوح في حرص الحلف على تقوية جناحه الشرقي تدريجيا، بما في ذلك في بولندا.

يسلط ستولتنبرج الضوء على نحو مبرر على الإصلاحات الأخيرة لحلف شمال الأطلسي. على سبيل المثال، قام الحلف بتشكيل فريق المهام المشترك عالي الجاهزية. بالإضافة إلى هذا، قام حلف شمال الأطلسي بتطوير سلسلة من التدريبات العسكرية واسعة النطاق على طول جناحه الشرقي لكي يثبت لروسيا أن الحلف يتعامل بجدية مع التزاماته تجاه كل دولة عضو. وهذا مهم بشكل خاص لبولندا ودول البلطيق، وكل منها لديها حدود مشتركة مع روسيا.
كما أظهر النشر الدوري لكتائب حلف شمال الأطلسي متعددة الجنسيات في بلدان الجناح الشرقي عزيمة الحلف. وقد شمل هذا الوجود المتقدم المعزز نقل الأفراد العسكريين والمعدات الأمريكية إلى المنطقة.
نتيجة لهذا، يوجد الآن 4400 جندي أمريكي في بولندا. ويمثل هذا قفزة كبيرة إلى الأمام من الاتفاقيات الأولية التي وقعها وزير خارجية بولندا آنذاك، راديك سيكورسكي (في ما يتصل بقاعدة الدفاع الصاروخي في بلدة ردزيكوو)، ووقعتها أنا بوصفي وزيرا للدفاع (في ما يتعلق بمنشأة القوات الجوية الأمريكية الدائمة في لاسك).
اتخذ الحلفاء خطوة أخرى إلى الأمام في قمة حلف شمال الأطلسي التي استضافتها بروكسل في يوليو 2018، عندما وافقوا على مبادرة جاهزية حلف شمال الأطلسي الجديدة، أو «الثلاثينات الأربعة». تلزم المبادرة الحلف بإضافة ثلاثين كتيبة ميكانيكية برية، وثلاثين سربا جويا، وثلاثين سفينة حربية جاهزة للانتشار في غضون ثلاثين يوما. وهذا هو جوهر عقيدة حلف شمال الأطلسي الحالية المتمثلة في «الردع عن طريق التعزيز السريع».
مع ذلك، يظل سؤال أساسي بلا إجابة: فهل يمنع الردع من قِبَل الحلفاء أي عدوان روسي محتمل خلال تلك الأيام الثلاثين؟ لن تتمكن قوات الانتشار الأمامي الحالية من توفير الحماية، وخاصة إذا استولت روسيا على سووالكي جاب (على الحدود بين بولندا وليتوانيا) أو إحدى دول البلطيق قبل وصول التعزيزات. ويتعين على الحلف أن يبذل المزيد من الجهد لحل «فجوة الثلاثين يوما».
من ناحية أخرى، أثارت تدخلات ترامب تساؤلات سياسية أخرى أكثر تعقيدا. كان تصريحه بأن حلف شمال الأطلسي كيان مهمل عفا عليه الزمن صادما في نظر العديد من الأوروبيين وكان بمثابة الهدية لروسيا. وفي حين يُظهِر ترامب نهجا داعما للأعمال، فإن الحلف يقوم على المبدأ الملزم «الكل من أجل الفرد، والفرد من أجل الجميع». في غياب هذا المبدأ، ما كان حلف شمال الأطلسي ليظهر للوجود. والواقع أن القرار الذي اتخذته المملكة المتحدة بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي يزيد من شدة المخاوف الأوروبية.
لكن المخاوف حول التحالف عبر الأطلسي ليست عذرا يبيح لصنّاع السياسات في أوروبا بطرح مقترحات غير واقعية على الإطلاق، مثل إنشاء جيش أوروبي مستقل عن حلف شمال الأطلسي.
تبدو فكرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حول «الاستقلال الاستراتيجي» غامضة بنفس القدر. فقد اقترح ماكرون مؤخرا إبرام معاهدة الأمن والدفاع الأوروبية -الأشبه باتفاقية شنجن دفاعية- وإنشاء مجلس أمن أوروبي يضم المملكة المتحدة بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي. وهذا المفهوم من شأنه أن ينشئ بنية بديلة لحلف شمال الأطلسي ويتجاوز سياسة الأمن والدفاع المشتركة للاتحاد الأوروبي، والتي يُعاد بناؤها الآن على وجه التحديد.
في مواجهة تهديدات جديدة، ينبغي لأوروبا أن تستخدم آليات وأدوات استخدمتها من قبل بالفعل. وكانت هذه الآليات والأدوات مطروحة على الطاولة منذ عشر سنوات، لكن في السنوات الثلاث الأخيرة فقط كان صنّاع السياسات على استعداد لاستخدامها.
على سبيل المثال، في العام 2017، أنشأ قادة الاتحاد الأوروبي مبادرة التعاون المنظم الدائم لزيادة التعاون الدفاعي بين الدول الأعضاء، واستحضروا «فقرة التضامن» في معاهدة الاتحاد الأوروبي بطلب من فرنسا في أعقاب الهجمات الإرهابية التي ضربتها. علاوة على ذلك، وقع الاتحاد الأوروبي إعلان التعاون مع حلف شمال الأطلسي العام الفائت، ووافق على إنشاء صندوق الدفاع الأوروبي. وسوف تعمل كل هذه المبادرات على تعزيز قوة أوروبا دون تقويض التحالف.
فضلا عن ذلك، يستطيع الاتحاد الأوروبي أن يواصل تحسين قدراته العسكرية دون الحاجة إلى إنشاء هياكل جديدة تتجاوز أطاره القانوني القائم. بادئ ذي بدء، يتعيّن على قادة أوروبا أن يتخذوا القرار بشأن مستقبل المجموعات القتالية التابعة للاتحاد الأوروبي، والتي كانت في الخدمة لسنوات لكنها لم تُنشَر حتى الآن. ينبغي لهم أيضا أن يفكروا بجدية في توسيع قدرة التخطيط والسلوك العسكري القائمة في الاتحاد الأوروبي من أجل إيجاد قيادة عملياتية تامة النضج للاتحاد الأوروبي بعد العام 2020. وقد تعهد الاتحاد الأوروبي بتنفيذ أكثر من 30 مهمة عسكرية ومدنية ومختلطة، كما تخطط الكتلة لزيادة نشاطها على المستوى الدولي بموجب الاستراتيجية العالمية للاتحاد الأوروبي التي جرى اعتمادها مؤخرا.
كل هذه المبادرات ضمن الإطار القانوني للاتحاد الأوروبي كفيلة بتعزيز قوة أوروبا دون تقويض الدور الذي يضطلع به حلف شمال الأطلسي. وينبغي لهذا أن يكون المبدأ الذي نستند إليه في تصميم الاستراتيجيات والسياسات طويلة الأمد.
يدخل حلف شمال الأطلسي العقد الثامن من عمره وسط خلافات مستمرة بين الولايات المتحدة وأوروبا. ويجب أن نأمل أن تختفي مفارقة ستولتنبرج، وأن يسارع الحلف إلى تعزيز جهوده العسكرية لردع العدوان الروسي المحتمل في حين يعمل على تهدئة التوتر السياسي بين الحلفاء الأمريكيين والأوروبيين. وسوف تراقب بولندا وبقية دول الجناح الشرقي لحلف شمال الأطلسي الأحداث عن كثب.

زعيم الأقلية في مجلس الشيوخ البولندي. كان وزيراً للدفاع في بولندا من العام 2007 إلى العام 2011 وعضوًا في البرلمان الأوروبي من 2004 إلى 2007.