السياسة الأوروبية شخصية

مقالات رأي و تحليلات الأحد ٠٧/أبريل/٢٠١٩ ٠٤:٢٠ ص
السياسة الأوروبية شخصية

مارك ليونارد

في كثير من الأحيان، تُستَحضَر أوروبا بعبارات مجردة، كتلك عندما يزعم الساسة أن السيادة الأوروبية هي السبيل الوحيد إلى الأمن في عالم تهيمن عليه قوى عظمى. لكن مع اقتراب الموعد النهائي الأصلي لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (التاسع والعشرين من مارس) خلال الأسابيع القليلة الفائتة، أصبحت فكرة الهوية الأوروبية أكثر واقعية وحضورا؛ وتحول السياسي فجأة إلى شخصي. وخلف تنافر الحجج البرلمانية حول: الأصوات «الداعمة» والأصوات «الدلالية» والأصوات «ذات المغزى»، هناك نحو 16 مليون ناخب بريطاني من أنصار البقاء في الاتحاد الأوروبي الذين يشعرون بخوف شديد من خسارة مواطنتهم في الاتحاد الأوروبي.

لا شك أن بعض أنصار «البقاء» هؤلاء شاركوا في المسيرة في لندن من أجل «تصويت الشعب» في نهاية الأسبوع الفائت، والتي اجتذبت أكثر من مليون شخص ومثلت أعظم تدفق شعبي للمشاعر المؤيدة للاتحاد الأوروبي تشهده أوروبا منذ سنوات. وأنا شخصيا، لم أر أعلام الاتحاد الأوروبي ترفرف بهذا القدر من الحماسة العاطفية إلا في «الميدان» في أوكرانيا في عام 2014 وفي أوروبا الوسطى والشرقية بعد انهيار الشيوعية. ولكن في حين كان هؤلاء المحتجون المؤيدون للديمقراطية يحلمون بالعودة إلى ماضيهم الأوروبي، فإن أنصار البقاء اليوم يحلمون بمستقبل ما بعد أوروبا.

الحق أنني أشاركهم تخوفهم ورهبتهم. فبعد أن نشأت في بروكسل مع أب بريطاني وأم ألمانية يهودية ولدت في فرنسا، فإن هويتي الأوروبية هي التي جلبت الوحدة والمعنى لتاريخ عائلتي. كان أقربائي منتشرين في مانشستر، ولوكسمبورج، وباريس، وبون، وكانت جدتي، الناجية من الهولوكوست والتي تيتمت في سن العاشرة، من أكثر الناس تأثيرا عليّ في فترة مبكرة من حياتي. هربا من رُهاب الأماكن المغلقة الذي صاحبها من نشأتها المحافظة في فورتسبورج بألمانيا، علمت نفسها سبع لغات أوروبية. وفي وقت لاحق من حياتها، قاومت آلام الشيخوخة المعوقة بتلاوة قصائد من أشعار دانتي، وهاين، وكيتس، وكيبلينج، ووردزورث، من الذاكرة.
عندما عدت إلى المملكة المتحدة للدراسة في عام 1992، احتضنت هويتي البريطانية وانغمست في تاريخ البلد وثقافته. ومن خلال القراءة لمؤرخين من أمثال ليندا كولي، وإريك هوبسباوم، ونورمان ديفيز، تعلمت أن التاريخ البريطاني ليس له علاقة تُذكَر بما يسمى «العزلة الرائعة». ولا يمكن فهمه إلا بوصفه جزءا من القصة الأوروبية.
كانت النخبة البريطانية أوروبية دائما ــ عندما يتعلق الأمر بالهوية والتراث. بانتمائها إلى بيت وندسور، تنحدر الملكة إليزابيث الثانية جزئيا من أصل ألماني. علاوة على ذلك، تستمد اللغة البريطانية من تأثيرات لاتينية وجرمانية، تماما كما تقع أحداث بعض من أعظم أعمالها الأدبية في إيطاليا، والدنمارك، واليونان. وفي العصر الحديث، كان القادة البريطانيون يحتضنون دوما هوية أوروبية في الأوقات العصيبة. وحتى ونستون تشرشل، ذلك الرجل الإمبريالي الكبير، كان على استعداد للتضحية بزخارف الإمبراطورية العالمية من أجل أوروبا بإعلان الحرب على ألمانيا النازية واقتراح الوحدة مع فرنسا.
في وقت أقرب إلى الزمن الحاضر، تحولت النزعة الأوروبية من ميزة للنخبة إلى ظاهرة ثقافية حاشدة. وبفضل انخفاض تكاليف السفر، يروح ويغدو عشرات الملايين من الناس على ضفتي القناة الإنجليزية في كل من الاتجاهين كل عام. وحتى في المناطق النائية من المملكة المتحدة، نجد أن المتاجر الكبيرة عامرة بالمعكرونة الإيطالية، وزيت الزيتون اليوناني، والجبن الفرنسي، والزبد الدنماركي، والنبيذ الإسباني. وقد استقر نحو مليوني بريطاني في دول الاتحاد الأوروبي الأخرى، في حين يقيم ثلاثة ملايين أوروبي في المملكة المتحدة.
في تسعينيات القرن العشرين، تولت قيادة مبادرة لاستكشاف السبل التي يمكن لبريطانيا من خلالها أن تعيد تقديم نفسها بما يتناسب مع العصر الحديث. وكانت الفكرة تتلخص في تأطير الهوية البريطانية باعتبارها هوية مدنية متطلعة إلى المستقبل بدلا من الهوية الشوفينية العرقية الرجعية التي كانت رئيسة الوزراء السابقة مارجريت تاتشر تناصرها وتدافع عنها.
من خلال التأكيد على إبداع بريطانيا وديناميتها، وارتباطاتها التاريخية العميقة بأوروبا والعالم، كنت أتمنى أن يبدأ البريطانيون المهمشون ــ الشباب، والأقليات العِرقية، وأهل لندن، ومواطنو اسكتلندا، وأهل ويلز، والأيرلنديون الشماليون ــ في النظر إلى بريطانيا باعتبارها وطنهم أيضا. الأمر الذي أدهشني أن حكومتي توني بلير وديفيد كاميرون اطلعتا على نتائج المشروع. ولكن بعد مرور عشرين عاما، لا تزال نفس المجموعات من المواطنين البريطانيين الذين جرى جلبهم في وقت متأخر إلى القصة الوطنية تخشى أنها قد تستبعد مرة أخرى. لقد أصبحت «بريطانيا الخروج البريطاني» مكانا لهويات قصرية ضيقة التحديد.
بعد الاستفتاء في عام 2016، قادني خوفي من فقدان جنسيتي الأوروبية إلى التقدم بطلب للحصول على الجنسية الألمانية. وأشار بعض أصدقائي اليهود إلى المفارقة الساخرة المتمثلة في البحث عن ملاذ في الدولة التي حاولت إبادة أجدادي. لكن استعادة الحق المكتسب بالميلاد الذي سُرِق من أسرتي تبين أنها كانت تجربة مؤثرة للغاية. وكان ذلك طبيعيا بالنسبة لي بقدر ما كان طبيعيا بالنسبة لجدتي، وأمي، وعمتي، اللاتي اتخذن القرار غير العادي بالعودة إلى ألمانيا في خمسينيات القرن العشرين.
كانت والدتي أستاذة في الأدب الألماني، ولهذا تعلمت في وقت مبكر من حياتي عن مواجهة ألمانيا المضنية لماضيها ورحلتها عائدة إلى الحضارة الأوروبية. وهذا أيضا ألقى الضوء على هويتي الأوروبية، التي تستند ليس فقط إلى ركائز التاريخ البريطاني والألماني، بل إلى توليفة من الأمل والخوف. عندما علمتني جدتي عن القيمة التنويرية المتمثلة في تقديم العقل على أي شيء آخر، لم تكن تستمد أفكارها من تقاليد بريطانية أو ألمانية، بل من تقليد أوروبي. كما علمتني كيف أقدر فكرة أوروبا كملجأ من تاريخ عائلتنا المأساوي.
كان هذا في واقع الأمر الدافع وراء المشروع الأوروبي: استحداث مُثُل عليا مشتركة ومنع العودة إلى ماضي القارة القاتل. أنشئ الاتحاد الأوروبي لتجاوز التاريخ الوطني للنازية، والفاشية، والشيوعية. ولكن اليوم يشعر كثيرون بالخوف من المستقبل الذي يسعون إليه لإعادة خلق ماض وطني لم يكن له وجود قَط.
مع ذلك، يستطيع المرء أن يجد الأمل في حقيقة مفادها أن تصاعد المشاعر المؤيدة لأوروبا في المملكة المتحدة تبين أنها مُعدية. ففي الفترة الحالية التي تسبق انتخابات البرلمان الأوروبي في مايو، تنادي أعداد غير مسبوقة من الناس بهوية أوروبية. ولكن مع تحول السياسي إلى شخصي من منظور المزيد من الناس، فإن التحدي سيتمثل في ضمان كون هذه الهوية الأوروبية شاملة ومتطلعة إلى المستقبل، وليست هوية يشكلها الحنين اليائس إلى الماضي.

مدير المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية.