أ.د. حسني نصر
الأسبوع الفائت، أعجبني كثيرا إشارة الدكتورة ميا الحبسية مديرة دائرة الإعلام بوزارة التعليم العالي إلى الاتصال المؤسسي وأهميته في السياقين الحكومي والإعلامي الحاليين، وذلك في الكلمة التي ألقتها في حفل تدشين مجلة إلكترونية تصدرها الوزارة، وتأكيدها أن المجلة التي تحمل اسم "وما يسطرون" هي أولى المبادرات المؤسساتية لتبني مجلة إلكترونية، وأنها تمثل لبنة جديدة في مشهد الوزارة الإعلامي والتواصل التفاعلي، وتسهم في تنمية الخط الجديد الذي يشهده قطاع الإعلام المؤسسي الذي يشهد نموًا متصاعدًا على المستويين الكمي والنوعي بالسلطنة.
وبصرف النظر عن ضخامة الأوصاف المستخدمة في تصوير المجلة الجديدة، ومدي تعبيرها بدقة عن الموقع الاليكتروني للمجلة، وهو أمر متروك الحكم عليه بالطبع لمتصفحيها، فإن ما أريد أن أؤكد عليه هنا هو تزايد الاهتمام العام بالاتصال الحكومي، الذي يمثل بالفعل إحدى الآليات المهمة في تعزيز صورة ذهنية إيجابية عن الحكومة وأعمالها وشرح سياساتها للمواطنين، إلى جانب نشر ثقافة الاتصال الاستراتيجي بين مختلف الجهات والمؤسسات والهيئات الحكومية، كخطوة ضرورية للوصول برسالة اتصالية حكومية متناغمة ومتكاملة تحقق استراتيجيات وسياسات الحكومة.
والواقع أن حقل الاتصال الحكومي باعتباره حقلا فرعيا من حقول الدراسات الاتصالية والإعلامية يشهد نموا متزايدا في السنوات الأخيرة وفي دول عديدة، خاصة مع التحول المتزايد في أنظمة الحكم نحو النظم القائمة على التواصل المستمر بين الحاكمين والمحكومين. ومع تعدد وتنوع المنصات الاتصالية وظهور وازدهار وسائل الإعلام الجديدة، التي يمكن أن تحمل الرسالة الاتصالية الحكومية، وتزايد متطلباته البشرية والمادية، تحول الاتصال الحكومي إلى صناعة كبيرة في دول كثيرة وأصبح يحظى باهتمام كبير سواء من جانب الممارسين أو المنظرين.
ورغم تعدد تعريفاته فان الاتصال الحكومي هو أداة سياسية تستخدم في تحقيق فاعلية الأهداف السياسية الحكومية وتنفيذ برامجها باقصي درجة من الوضوح والشفافية. وهو "الجهود المبذولة لاستخدام المعرفة والبيانات المتاحة للحكومة للتأثير في معارف وآراء وسلوكيات المواطنين وذلك في اتجاه يتوافق مع أهداف ورغبات الحكومة، وكذلك جهود جمع المعلومات من اجل تحقيق أهدافها وطموحاتها. وبالإجمال فان الاتصال الحكومي يعني استخدام الحكومة لمصادرها المعلوماتية لتوجيه الأفعال السياسية والتأثير فيها سواء للمواطنين أو القوى الفاعلة في المجتمع.
ويستهدف الاتصال الحكومي الوصول إلى الجمهور برسائل اتصالية وإعلامية متعددة ولكنها متناغمة ومتكاملة وغير متعارضة، تستلهم الخطط الاستراتيجية للدولة، وتوظف كل القدرات والإمكانات والمنصات الاتصالية المتاحة لتحقيق وصول سهل وفاعل إلى المواطنين والمقيمين في مختلف القطاعات الجغرافية والسكانية.
على المستوى الوطني، علينا أن نعترف بان الحكومة العمانية تبذل منذ فترة مبكرة من عمر النهضة جهودا كبيرة للوصول برسالتها الاتصالية إلى الجمهور وذلك عبر إدارات العلاقات العامة والإعلام بالوزارات والهيئات المختلفة. والواقع أن هذه الجهود الكبيرة تبدو متفاوتة في القوة والانتشار من وزارة إلى أخرى ومن مؤسسة وهيئة عامة إلى أخرى، وفقا للإمكانات الاتصالية البشرية والمادية المتاحة لكل منها، ومدي إيمان القائمين عليها بأهمية الاتصال، ومحورية دوره في تحقيق الأهداف الحكومية. وقد نتج عن ذلك تقديم رسائل حكومية مشتتة وغير متكاملة إلى حد كبير، وهو ما يعيق تحقيق الاتصال الحكومي الفعال. وغنى عن القول إن الجهود الاتصالية التي تبذلها وزارة أو هيئة ما لا يمكن أن تعمل وتثمر بمعزل عن جهود الوزارات والهيئات الأخرى ذات الصلة، خاصة وان بعض الهيئات تترابط أعمالها بشكل كبير.
أن أية محاولة لتصويب الأداء الاتصالي الحكومي وتقديم اتصال حكومي متوافق ومتكامل ومتناغم، خاصة ونحن نواجه تحديات كثيرة على مستوى تنويع مصادر الدخل ومواجهة الانخفاض الكبير في أسعار النفط وما قد يترتب على ذلك من إجراءات حكومية لترشيد الإنفاق، يجب أن تبدأ بدراسة علمية جادة ورصينة تقوم على تقويم الاتصال الحكومي القائم في ضوء ما شهده حقل الاتصال الحكومي من تطور وفي ضوء التجارب العالمية والإقليمية في هذا المجال، ثم الانطلاق من هذا التقويم إلى اقتراح خطط وبرامج وآليات محددة لبناء اتصال حكومي قادر على توحيد الجهود مع الحفاظ على تنوعها وتحقيق التكامل بينها بما يصب في النهاية في تعزيز الأداء الاتصالي لوحدات الجهاز الإداري من ناحية واكتساب الدعم الشعبي لخطط وبرامج الحكومة من ناحية أخرى.
ما أحوجنا في هذه المرحلة لدراسات علمية تستهدف وصف وتحليل وتقويم واقع الاتصال الحكومي في سلطنة عمان وسبل تطويره بما يخدم المصالح العليا للدولة. والواقع أن مثل هذه الدراسات تبدو مهمة في الوقت الحالي خاصة إذا أصلت علميا للاتصال الحكومي ومفهومه وأهدافه وآلياته، وقدمت النماذج العالمية والإقليمية في هذا المجال من خلال مراجعة الأدبيات والتراث العلمي في هذا المجال، ثم انتقلت بعد ذلك لوصف وتحليل وتقويم واقع الأداء الاتصالي في الوزارات والهيئات الحكومية في السلطنة من حيث الإمكانات المادية والبشرية للاتصال، والوسائل الاتصالية المستخدمة ومدى وملاءمتها وكفاءتها في نقل الرسائل، وأنواع الرسائل الاتصالية الحكومية، والآثار المترتبة على الاتصال. إن مثل هذه الدراسات التي تستهدف بالإجمال تقويم واقع التكامل أو التشتت في الجهود الاتصالية الحكومية في السلطنة سوف تمكننا بالتأكيد من بناء مخطط عام لبرنامج اتصال حكومي فاعل ومتناغم يجمع الجهود الاتصالية المتفرقة ويقدم رسالة اتصالية متناغمة على المستوى الوطني. إن إصلاح الاتصال المؤسسي الحكومي وزيادة فعاليته وتحقيق أهدافه، يبدأ بإصلاح المفاهيم. والخطوة الأولي للوصول إلى ذلك تتمثل في أن يدرك كل من له علاقة بهذا الاتصال في دوائرنا الحكومية الخصائص التي تميز بيئة وسائل الإعلام في الوقت الحالي، وان التعامل مع هذا الاتصال لا يكفي فيه مجرد إصدار مجلة اليكترونية شهرية لا تختلف كثيرا عن الصفحات الإعلانية التي تنشرها المؤسسة في الصحف اليومية.
اكاديمي بجامعة السلطان قابوس