عُماني يؤسس منصة إلكترونية صحية

مزاج الاثنين ١١/مارس/٢٠١٩ ١٢:١٧ م
عُماني يؤسس منصة إلكترونية صحية

مسقط - لورا نصره- تصوير - شبين
بدأ الأمر بحلم راود الشاب أحمد بن رشيد الشهرباني وهو لم يزل على مقاعد الدراسة في كلية الطب بلندن، وخلال سنوات قليلة أصبح الحلم واقعاً وأصبحت المنصة الإلكترونية «لوكمز نست» والتطبيق الذكي التابع لها والخاصة بملء الشواغر والمناوبات الطبية شركة رائدة تقدر قيمتها بالملايين وتقدم خدماتها لأكبر المستشفيات في المملكة المتحدة البريطانية، وهي على وشك تقديم خدماتها في السوق المحلي قريباً جداً لتغير من خارطة الرعاية الصحية على مستوى السلطنة بعد أن استثمرت الشركة العُمانية لتطوير الابتكار في شركته. طريق أحمد لم يكن مفروشاً بالورود، لكن شغفه اللامحدود وإصراره على النجاح كان الحافز الذي دفعه للوصول إلى القمة.

طبيب المستقبل
كان المسار المهني لأحمد شبه واضح عندما كان لا يزال على مقاعد الدراسة في المدرسة البريطانية بمسقط، فالفتى ينتمي إلى عائلة امتهنت الطب البشري لمدة طويلة، فالوالد والوالدة من الأطباء المشهورين في البلاد والمناخ العام في المنزل لم يكن يتيح العديد من الخيارات. يقول أحمد: «لم يكن نوعاً من الإجبار على السير في هذا المسار المهني، كان أكثر منه مناخاً عاماً داخل الأسرة ورغبة من الطفل في أن يحذو حذو والديه». أنهى أحمد دراسته الثانوية في العام 2009 وغادر نحو عاصمة الضباب لندن ليبدأ رحلته في عالم الطب البشري.

ولادة الفكرة
مرت السنوات وأحمد الطبيب يبني مساره المهني بعناية خاصة متسلحاً بالعلم الذي يحصل عليه من جامعته ومُدرسيه، ويحلم كيف سيصبح من الأطباء المشهورين حول العالم. تخرج أحمد وبدأ رحلته في التدريب العملي في إحدى مستشفيات العاصمة البريطانية، خلال تلك الفترة نشأت صداقة متينة بينهوبين زميله اليوناني الأصل نيكولاس أندريو الذي يتدرب معه في نفس المستشفى، وفي إحدى الليالي التي كان الصديقان يعملان فيها معاً، امتلأت المستشفى بالمرضى والمراجعين، ووجد أحمد ونيكولاس نفسيهما وحيدين ومسؤولين في ذات الوقت عن رعاية وتلبية احتياجات ما يزيد عن مئة مريض نتيجة قلة الكادر الطبي المتوفر في تلك الليلة، أنهى الثنائي عملهما وهناك سؤال يلح عليهما لم يعرفا له إجابة شافية. لماذا لا يوجد كادر كافٍ عندما تكون بأمس الحاجة إليه؟
في الصباح التالي توجه أحمد ونيكولاس بسؤال الأمس للمشرف المباشر على تدريبهما ليتلقيا الإجابة التي كانت على الشكل التالي، قال المشرف : «إن تأمين الكادر الطبي المطلوب لملء المناوبات الشاغرة ليس بالأمر اليسير، فهو عملية معقدة للغاية ومكلفة في ذات الوقت، حيث تنفق المستشفيات ودور الرعاية الطبية المليارات مع الوكالات القليلة المتخصصة في هذا المجال، كما يستغرق إنجاز الاتفاقية بين المستشفى والطبيب وقتاً طويلاً، وهو تحدٍ تعاني منه المستشفيات كثيراً».
إجابة المشرف على سؤال الطبيبين كانت بمثابة الباب الذي فُتح فجأة أمام هذه العقول الشابة لتلمح من خلاله شبح فكرة عبقرية لتصميم حل عملي لتحدٍ قائمٍ بالفعل، لم يستغرق الصديقان كثيراً قبل أن يضعا الملامح الرئيسية للحل التقني المطلوب، ففي عالم يتجه أكثر فأكثر نحو التكنولوجيا، لم يُعد مقبولاً تصميم حلول تقليدية للتحديات التي يفرضها الواقع. هذه اللحظات بالتحديد شكلت الولادة الأولى لما سيُعرف لاحقاً بـ لوكمز نست.
دراسة الطب عموماً لا تسمح للشخص بالكثير من الوقت لإنجاز أية أهداف جانبية، وعليه استغرق الأمر من الطبيبين الشابين أشهراً طويلة لرسم الملامح الأساسية للمنصة الإلكترونية والتطبيق الذكي التابع لها والتي ستحل محل الوكالات المتخصصة في ملء الشواغر والمناوبات الطبية، وبالطبع دون أي دعم مادي سوى المدخرات الشخصية من السنوات السابقة والتي لم تتجاوز 15 ألف جنيه استرليني في حينها (قرابة 7 آلاف ريال عُماني).
تملك الشابين إحساساً طاغياً بأنهم على وشك القيام بخطوة كبيرة في حياتهما، قررا تطوير مهاراتهما في البرمجة لتطوير المنصة بنفسيهما، بدءا بالفعل، ومع الاستعانة ببعض الأصدقاء وصلوا إلى التصميم الأولي للمنصة، لكن ذلك لا يكفي فعلياً للبدء بعملية التسويق، فهم بحاجة لدعم مادي حقيقي لتحويل الحلم إلى واقع، فضلاً عن أن الوقت الآن بحاجة لاتخاذ قرار مصيري هائل سيكون له ما بعده على مستقبلهم المهني. اجتمع الصديقان بتاريخ 3 أغسطس 2014 لتدارس الخطوة القادمة، كان أحمد واضحاً في شرح الموقف بدقة، لا يمكن الاستمرار في الطريقين معاً، علينا أن نقرر نهائياً فيما لو أردنا متابعة حياتنا في مجال الطب والبدء بمرحلة التخصص، أم أننا سنكرس حياتنا لهذه الفكرة الوليدة التي لم تتجاوز حاجز التصميم المبدئي مع بعض الأرقام التي تشكل في مجموعها ما يطلق عليه «نموذج العمل» .. اتخذ الصديقان قرارهما في تلك الليلة باعتزال مسار الطب البشري مُضحين بمستقبل يبدو واعداً للغاية، من أجل اللحاق بحلمهما المشترك وتحويله إلى واقع.

البحث عن تمويل
على الرغم من اعتراض الأهل على قرار الشابين الذي وصف حينها بالمتهور وغير المسؤول، أصر كل من أحمد ونيكولاس على موقفهما وبدءا رحلة البحث عن التمويل، حاولا التواصل مع الجهات التي تقدم تمويلاً للمشاريع الناشئة في المملكة المتحدة، إلا أن الأبواب صدت في وجوههم فهم ما زالوا في مرحلة مبكرة جداً لأي مغامرة استثمارية غير محمودة العواقب وهذه الجهات لديها اشتراطات هائلة قبل أن تغامر بأي مبلغ.
في هذا الوقت بالتحديد، سمع أحمد عن الشركة العُمانية لتطوير الابتكار التي تنشط في مجال الاستثمار الجريء في بلده عُمان، لم يتردد بالتواصل مباشرة مع المعنيين في الشركة لطلب التمويل، على الطرف الآخر كان طلال حسن، المحلل الاستثماري والخبير القانوني الشاب في الشركة العُمانية لتطوير الابتكار. يقول طلال : «حصل أحمد على انتباهي الكامل عندما عرفت أنه طبيب عُماني يدرس في المملكة المتحدة ولديه مشروع واعد، طلبت الكثير من المعلومات والتفاصيل قبل اتخاذ أي قرار، درسنا جدوى الاستثمار مع الفريق وخلصنا إلى نتيجة نهائية تقضي بأن المشروع مازال في مراحله المبكرة بالنسبة لنا، فنحن نستثمر في الشركات العاملة التي دخلت مرحلة الربحية لنساعدها على التوسع بقوة، عرفت بأن مشروع أحمد يحمل جــــــينات النجاح ولكن يحتاج للمزيد، قررت أن لا أغلق الباب في وجهه بالكامل فــــــقلت بالتــــحديد «مشروعك ملفت ولكن مازال الوقت مبكراً بالنسبة لنا للمشاركة، اعمل عليه وعاود التواصل معنا عندما تقطع بعض المراحل وسنكون بانتظارك».

100 ألف جنيه ديون
يقول أحمد عن تلك الفترة: «لا يمكن التعبير بدقة عن شعوري في تلك المرحلة، كنت خائباً لعدم تمكني من إقناع طلال بتمويل المشروع، وفي نفس الوقت كنت فخوراً أنني حصلت على انتباهه. ناقشت النتائج مع نيكولاس وقررنا أنه يجب تمويل المرحلة الأولى بشكل شخصي قبل التوجه لأية جهة استثمارية، في الصباح التالي كان كل منا يحلق عائداً إلى وطنه لاقتراض ما يمكن اقتراضه من الأهل والأصدقاء، كانت رحلة طويلة استطعنا خلالها جمع ما يصل إلى 100 ألف جنيه استرليني (ما يعادل 50 ألف ريال تقريباً) كانت قائمة المدينين طويلة جداً وكنا نرمي بأنفسنا إلى التهلكة وفق تقييم الكثيرين.
عدنا إلى لندن مرة أخرى ومعنا المال الكافي للبدء من جديد، قمنا بتأسيس الشركة وتعيين بعض الموظفين المتخصصين بالتسويق، كما قمنا بتعيين مطور مواقع متخصص لتنفيذ الفكرة بالشكل الدقيق، خلال بضعة أشهر كانت منصة لوكمز نست جاهزة للاختبار، تواصلنا مع أصدقائنا الذين أصبحوا أطباء متخصصين في ذلك الوقت للانضمام إلى المنصة، كما تواصلنا مع العديد من أشهر الأطباء في المملكة المتحدة والذين كانوا أساتذتنا قبل سنوات للانضمام أيضاً. استطعنا أن نضم ما وصل تقريباً إلى 1,000 طبيب للمنصة قبل التوجه إلى إدارة إحدى أكبر المستشفيات في العاصمة البريطانية لتقديم عرض العمل الأول. يقول أحمد: «كانت لحظات تحبس الأنفاس، جهدنا طوال السنوات الماضية والديون الكثيرة التي أصبحت على عاتقنا، كلها تتوقف على هذا العرض، أعتقد أن جسدي كاملاً كان يتحدث وليس لساني فقط، حاولت جاهداً شرح الفكرة وكيف لها أن تساعد المستشفى على توفير التكاليف، كانت تعبيرات الوجوه أمامي لا تحمل إي إيحاء، أنهيت العرض وجلست مستعداً للإجابة عن أسئلة اللجنة، لم يكن هناك أسئلة، كانت جملة واحدة قالها مدير المستشفى : هل تعتقد أنك ستقنعني بأن تطبيقك هذا الذي تكلف بضعة آلاف، سيمكنه توفير 4 مليار جنيه تنفقها المستشفيات سنوياً على هذا الأمر، لا أعتقد ذلك، إلا أنني سأغامر بتوقيع مذكرة تفاهم معك ستقضي بأن أستخدم هذه المنصة فيما لو استطاعت أن تثبت جدواها خلال عام من اليوم».
أعتقد أنني قفزت في الهواء عندما سماعي لهذه الجملة، لم يكن الأمر سوى ورقة واحدة عليها توقيع بالأحرف الأولى من الطرفين، لم تكن تساوي الكثير فعلياً، إلا أنها بالنسبة لنا كانت انتصاراً ساحقاً للحلم وخطوة أولى في مسيرة الألف ميل.

الشركة العُمانية لتطوير الابتكار مجدداً
لا يوجد وقت لإضاعته، توجهت من المستشفى لمقر الشركة وبادرت بالاتصال بطلال مجدداً طالباً تحديد موعد لمقابلة شخصية، لم يتردد طلال وتم تعيين الموعد في وقت لاحق من الشهر، توجهت من المطار إلى مقر الشركة العُمانية لتطوير الابتكار حيث كان طلال بانتظاري بصحبة عدد من زملائه من المحللين الاستثماريين، كنت صريحاً وواضحاً للغاية، لدي مشروع حقيقي وهناك مستشفى ضخم في لندن بانتظاري لأثبت مصداقيتي، أحتاج إلى تمويلكم للقيام بذلك. استغرق الأمر بضعة أسابيع - مرت كالسنين - قبل أن أتلقى الاتصال من طلال الذي أخبرني بأنني حصلت على التمويل الأولي الذي طلبته».
يقول طلال : «كان المشروع حقيقاً والرؤية واضحة والشغف لدى أحمد لا يمكن تجاهله، اتخذنا القرار بالمضي بالاستثمار بمبلغ محدود في المشروع، تبعه خلال فترة لاحقة استثمار مبلغ أكبر فرضه النجاح السريع الذي حققته لوكمز نست في السوق البريطاني، كما أن جدوى المشروع على الصعيد المحلي ودوره في تعزيز مستويات الرعاية الصحية في السلطنة وبالتحديد في المناطق البعيدة عن العاصمة، ساهم في اتخاذنا للقرار بالمضي قدماً في دعم المشروع». يقول أحمد : «تضم قائمة لوكمز نست اليوم ما يصل إلى 20 مستشفى وأكثر من 10 آلاف طبيب في المملكة المتحدة فقط، وقد استطاعت توفير ملايين الجنيهات الإسترلينية لمستشفيات الخدمات الصحية الوطنية هناك، كما حققت مزايا متفوقة على صعيد معدل الحضور للأطباء، الأمر الذي عزز الثقة بخدماتها وقدرتها على النمو في المستقبل».
يتابع: «مشروعنا الآن هو توفير خدمات هذه المنصة في السوق المحلي الذي يعاني من عدم توافر الكوادر الطبية المتخصصة والكافية لتقديم خدمات رعاية صحية ذات جودة عالية في كافة ولايات السلطنة، حيث تعتمد وزارة الصحة حالياً على جلب الأطباء من خلال وزارة القوى العاملة ووكلاء خارجيين، إلى جانب الإعلان على موقعهم الإلكتروني، وقد أدركت الوزارة أن هذه الطريقة غير فعالة تماماً.
وهنا يأتي دورنا في لوكمز نست لمنح المستشفيات العمانية إمكانية الوصول المباشر إلى عدد كبير جداً من الأطباء المتخصصين في المملكة المتحدة، بحيث يستطيعون الاتفاق مباشرة على عقود مؤقتة تتراوح ما بين شهر إلى ثلاثة أشهر مع التركيز على مجالات أساسية تحتاج إليها السلطنة وهي الخدمات الصحية المتخصصة في المناطق النائية والزيارات الطبية الاستكشافية، وهذا الأمر سيساعد أيضاً على نقل المعرفة من الأطباء المتخصصين في المملكة المتحدة إلى المستشفيات العمانية المحلية.
يقول أحمد الشهرباني: «لقد قطعنا شوطاً طويلاً في رحلة تطوير لوكمز نست، وبالتعاون مع الشركة العُمانية لتطوير الابتكار، استطعنا أن نثبت أننا على الطريق الصحيح لمستقبل أكثر إشراقاً. كل الشكر لمن ساهم في تحقيق هذا الحلم، وأفخر بتقديم هذا الإنجاز إلى عُمان الحبيبة التي كانت وستبقى دائماً وأبداً من وراء القصد».