فرنسا والكراهية العظمى

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ٠٦/مارس/٢٠١٩ ١٠:٤٨ ص
فرنسا والكراهية العظمى

نويل لينور
كان فوز إيمانويل ماكرون غير المتوقع في الانتخابات الرئاسية الفرنسية في عام 2017 بنحو 66% من الأصوات، سببا في جعل فرنسا تبدو، على الأقل في نظر بعض المراقبين، وكأنها الملاذ الآمن ضد الشعبوية التي تعصف بالسياسة الأوروبية. فقد جاء انتصاره نجدة للغالبية العظمى من الفرنسيين، وأيضا لحكومات أخرى في الاتحاد الأوروبي ومختلف أنحاء العالَم.

لكن انتصار ماكرون استحث شكلا من أشكال التشوش والارتباك أشبه بالهستيريا بين خصومه على أقصى اليمين واليسار. وتُعَد احتجاجات «السترات الصفراء» المتزايدة العنف، والعنصرية، ومعاداة السامية التعبير المرئي عن ذلك الغضب.

صحيح أن بعض اللوم عن هذا يقع على عاتق ماكرون، وعلى الصمم التكنوقراطي الذي يتسم به بعض أفراد فريقه. وبشكل خاص، كانت الزيادة الحادة في الضرائب على الوقود في نوفمبر 2018 ــ الخطوة التي كان المقصود منها تعزيز أجندة الرئيس بشأن المناخ، والمساعدة في الوقت ذاته في ضبط الموازنة على الهوامش ــ بمثابة ضربة قوية بشكل غير متناسب للناخبين في المناطق الريفية والضواحي، الذين كانوا يشعرون بالفعل بضغوط اقتصادية شديدة. وأشعل هذا شرارة تمرد السترات الصفراء.

ولكن مع تقلص حجم الاحتجاجات وزيادة حدة عنفها، أصبح ماكرون وما يمثله بؤرة تركيز كراهية المتطرفين. فبادئ ذي بدء، يبرز ماكرون في الوقت الحاضر لالتزامه بتجديد نشاط أوروبا. وهو يرفض الإجماع الناشئ حول قدرة ساسة التيار الرئيسي على إلحاق الهزيمة بالشعبوية فقط من خلال التهوين من شأن دعمهم للاتحاد الأوروبي. وبدلا من ذلك، يؤكد ماكرون دون كلل أو ملل على إيمانه بأوروبا القوية الديمقراطية المزدهرة القادرة على التصرف في العالَم من واقع السلطة.

علاوة على ذلك، كان ماكرون حريصا حتى الآن على مواصلة الإصلاحات التي وعد بها خلال حملته الانتخابية، على الرغم من الاحتجاجات. ففي أقل من عام، تبنت حكومته قوانين لزيادة مرونة سوق العمل، وضمان السلوك الأخلاقي من قِبَل المسؤولين المنتخبين والموظفين الحكوميين، وتحديث النظام العتيق الذي كان معمولا به للالتحاق بالجامعات. لكن ماكرون قلل من شأن الصعوبة المتمثلة في خفض عجز الموازنة والدين العام في فرنسا بهدف الامتثال لقواعد منطقة اليورو، مما ساهم في دفعه إلى اتخاذ القرار بشأن زيادة الضراب على الوقود في نوفمبر الفائت.

اليوم، يصور خصوم ماكرون من مختلف أشكال الطيف السياسي أنفسهم على أنهم جزء من حركة شعبية عفوية. لكن الحقيقة هي أن العديد من الساسة الذين هزمهم ماكرون في حملته المنتصرة عازمون الآن على تقويضه. وما أثار دهشة كثيرين أن الرئيس السابق فرانسوا هولاند، الذي عمل ماكرون تحت أمرته ذات يوم، يشجع الآن حركة السترات الصفراء علانية على تشديد احتجاجاتها. حتى أن لوران فوكييه، زعيم الجمهوريين من يمين الوسط، ارتدى سترة صفراء. من ناحية أخرى كانت مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف وجان لوك ميلينشون زعيم اليسار المتطرف يستشعران توفر إمكانات ثورية في غضب المحتجين.

ربما تبدو حركة السترات الصفراء أشبه بقوى شعبوية أخرى في أوروبا، وخاصة حركة النجوم الخمس في إيطاليا. لكن المحتجين الفرنسيين يتسمون بالعنف الشديد قولا وفعلا. يتلقى ماكرون وزوجته تهديدات شبه يومية بالموت. ويذكرنا هذا بالهجمات الشرسة على ليون بلوم، رئيس وزراء فرنسا الاشتراكي في منتصف ثلاثينيات القرن العشرين، والذي أرسلته في وقت لاحق حكومة المارشال فيليب بيتان المتعاونة مع النازي في الحرب العالمية الثانية إلى معسكر الاعتقال في بوخنفالد.

كان تشارلز موراس، الكاتب الكاثوليكي والصحافي البارز في سنوات ما بين الحربين والذي أصبح عضوا في الأكاديمية الفرنسية المرموقة، يصف بلوم بأنه «وحش ورجل يستحق أن يُرمى بالرصاص، ولكن من الخلف». واليوم، ينفس النائب اليساري المتطرف فرانسوا روفين عن كراهيته لماكرون في ظروف مشابهة. لم تشهد فرنسا مثل هذه الهستيريا ضد أي زعيم سياسي في السلطة منذ ثلاثينيات القرن العشرين.

تسير الكلمات العنيفة جنبا إلى جنب مع أعمال العنف. فقد جرى تحطيم ونهب المتاجر، ودمرت الحرائق مبان حكومية، ومكاتب برلمانيين، بل وحتى ممتلكات خاصة برئيس الجمعية الوطنية. كما تعرض نواب للتهديد (بما في ذلك بالسلاح الناري)، وجرى نهب مقار الصحف، وأصيب أكثر من 1500 ضابط شرطة بجراح.
كيف وصلت فرنسا إلى هذه النقطة؟ ليس سرا خافيا أن القنوات التلفزيونية التي يمولها الكرملين، مثل روسيا اليوم وسبوتنيك ــ ومن بعدهما قنوات اجتماعية وغيرها من المحطات التلفزيونية ــ وفرت المنصات التي شجعت التحريض على الغضب، ومعاداة البرلمانية، والأكاذيب، والتضليل، والعنصرية، ومعاداة السامية. ويبدو الأمر وكأن فرنسا تعيش يوميا خلال «دقيقتي الكراهية» من رواية جورج أورويل «1984».
الواقع أن الضرر المادي والأخلاقي الذي لحق بالبلاد كبير. ولكن لن تندلع حرب أهلية. ذلك أن غالبية واضحة وعريضة من الفرنسيين يشعرون بالغضب الشديد والصدمة إزاء تصاعد أعمال العنف والتعصب. وقد اتخذ اتحاد العمل الديمقراطي الفرنسي، وهو أكثر النقابات العمالية أهمية في فرنسا، موقفا واضحا ضد «أشكال العنف كافة». وقال رئيسه لورين بريجيه إنه «إذا ثبتت مسؤولية منظمة نقابية عن مثل هذا القدر من العنف في حركة أطلقتها، فإنها تستحق الحظر لمدة عشرين عاما على الأقل». كما يكتسب ماكرون نفسه شرعية متجددة بفضل تصديه للأزمة بقدر كبير من ضبط النفس والتزامه بأجندته الإصلاحية.
لكن حركة السترات الصفراء لم تنته بعد، ولا يمكن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. أولا وقبل كل شيء، يتعين على السلطات أن تعاقب مرتكبي أعمال العنف والتخريب بشدة، بدءا بإلزامهم بتعويض الضحايا، وإزالة جميع أشكال الإفلات من العقاب. ولابد أن نتعامل مع الاعتداء والدمار المحفزين إيديولوجيا كما نتعامل مع أي جريمة عنف أخرى. وأي شيء أقل من هذا من شأنه أن يشجع أولئك الذين لا يتورعون عن تبني العنف في ملاحقة أهدافهم.
ثانيا، لابد من مواجهة الأخبار الكاذبة وإساءة استخدام وسائط التواصل الاجتماعي، على النحو الذي يهدد التماسك الاجتماعي والديمقراطية ذاتها، بكل قوة. ويوفر «الحوار الوطني» العظيم الذي نظمه ماكرون من خلال اجتماعات محلية وشبكة الإنترنت ثِقلا موازنا مفيدا. وهو يواصل التأكيد على نفسه بوصفه محاور بارز حقا. لكن هذه التجربة الفريدة ستنتهي في الخامس عشر من مارس. ومن أجل الديمقراطية الفرنسية والأوروبية، يأمل المرء أن يعطي هذا الحوار دفعة جديدة للإصلاحات المطلوبة بشدة والتي انتظرها الفرنسيون لعقود من الزمن.

وزيرة فرنسية سابقة للشؤون الأوروبية