إليكَ أنت.. يا من كدتَ أن تكون رسولا

مقالات رأي و تحليلات الأحد ٢٤/فبراير/٢٠١٩ ٢١:٢٧ م
إليكَ أنت.. يا من كدتَ أن تكون رسولا

✺ أحمد بن عيسى الشكيلي
تشرق شمس هذا اليوم دافئة، فبرغم وقع ما تبقى من شتاء إلا أن دفء المناسبة تجعله برد سلام على الأجساد، تتسلل خيوط الشمس شيئًا فشيئًا، فالشروق المتأخر لم يترك مجالًا للدفء أن يأتي سريعًا كشروق شمس الصيف، ومع ذلك فإن الشتاء لا يزيد بعض الأجساد إلا صلابة حتى وإن أرهقها .
الرابع والعشرون من فبراير.. شمسه ساطعة لا يحجبها كف، دافئة حتى وإن ملأ الصقيع الأرض، مشرقة بنور ربها حتى وإن حاصرتها الغيوم، فشمس يوم المعلّم تتوهج بتوهج عطاء المُعلّمين المخلصين، وتشرق بإشراقة وجوههم بابتسامتهم الصادقة التي يقابلون بها طلاّبهم كل صباح، ويودعونهم بها عند انتصاف النهار، شمسُ يوم المعلم لا تأفل حتى وان انتهى النهار، فالقمر يعكسُ نورها في انسجامٍ كونيّ بديع .

يحتفل معلمونا الأجلّا بيومهم المجيد هذا اليوم، وتأبى الذكريات إلا أن تسترجع شريطها، تستعرض فيه أفضال المعلّم، وتستذكر فيه أناسًا كانوا لنا أباءً قبل أن يكونوا معلّمين، وكانوا لنا إخوانًا ناصحين، وكانوا لنا أصدقاءً مخلصين، فلم يقتصر دورهم على تعليم حروف الهجاء وربطها ببعضها، أو أرقام الحساب وجمعها وطرحها، لم يكن دورهم تلقيننا أركان الإسلام، أو تحفيظنا آيات القرآن، لم يكن غايتهم القصوى أن نعرف الخرائط والأقاليم، أو السائل والغازيّ، أو معنى الصباح ومعنى المساء بالإنجليزية، بل كانوا أسمى من ذلك وأنبل، كانوا يحملون رسالة سامية، فالمعلم هو الأب إن غاب الأب، وهو الأخ إن غاب الأخ، احترامه واجب، وتقديره لازم، وتوقيره أمرٌ لا مفر منه إلا لمن شذّ .

تمضي الأيام وتتطور الحياة، وتتسع رقعة العلوم وتتعدد، ويبقى المعلّم هو المحرّك الرئيس لها، فبدونه لا يستقيم للكاتب أن يكتب، ولا المهندّس أن يرسم، ولا يمكن للناقد أن يُحلل، ويستعصي على الطبيب أن يشخّص، بدون المعلّم لا كتاب يُقرأ، ولا علمٌ يتجدد، ولا معرفة تتراكم، بدون المعلّم يتمدد الجهل بسدوله، وإن تنوعت مصادر المعرفة، فنور العلم لا يشرق إلا على يديه، فحسبه كتلك المشكاة التي يتوهج فيها المصباح متَّقِدًا من الشجرة المباركة .
إن أعياد المعلّم لا تحدّها أزمنة، وأفراحه لا تقيّدها حدود، فهو مصدر السرور ومبعثه لكل أسرة ينهل أبنائها من فيض علمه، شرّفه الله بحمل رسالة العلم، واختصه بالكثير مما حُرِم غيره منه، فهو القاريء في زمنٍ عزّت فيه القراءة، وهو الناصح في زمنٍ توارى فيه الناصحون، وهو الذي يعلّم البشر ما لم يعلموا من علوم الكون بفضل ما آتاه الله من علمٍ، يجد أثره ولو بعد حين، وهو الذي يحمل على عاتقه رسالة سامية، ويؤدي أمانة عظيمة، بوَّأه أمير شعرائنا منزلة الرُسل، وبها أجلّه عن الخطأ والزلل، وعصم نفسه عن الجور والعِلل، نراه سراجًا منيرًا كالشمس في رابعة النهار، ونراه عالمًا خبيرًا كالنجم يهتدي به من أراد النجاة من براثن الحياة ، فبورك المعلّم المخلص لعلمه، المخلص لعمله، المخلص لرسالته .
أيها المعلّم الجليل، إن من الغبطة التي تجدها في قلوب البشر لشخصكم الكريم الكثير، وهي مدعاة للتفكّر والتقدير في الوقت ذاته، فقد استأمنك الله أمانة قبل أن يستأمنك إياها الوطن، وحمّلك رسالة سامية لم يتشرف بها غيرك من البشر، وإن الناس بوأووك منزلة حرموا منها نفوسهم، واستأمنوك على فِلذات أكبادهم وهم لا يعرفوك، لتكن لهم أبًا ثانيًا، ومُرشدًا حانيًا، ومُعلّمًا يأخذهم من الظلمات إلى النور، ومن الحزن إلى السرور، ومن براثن الجهل إلى أنوار العلم، ومن ضيق الحياة إلى سعتها، ومن دروب الشقاء إلى فُسحة الإخاء، حتى أصبح الطالب يُصدّقك أكثر مما يصدّق والديه، ويحترمك أكثر مما يحترم ذويه، لأنك باختصار المُعلّم، وفي عرف الكثيرين فإن المُعلّم هو العالم الخبير، فهنيئًا لك المنزلة العظيمة، وهنيئًا لك السرور الذي تدخله على من أتاك للعلم طالبًا فأرشدته إلى موارد العِلم، وجنّبته مواطن الجهل والزلل، في زمنٍ كثر فيه الغث، وقلّ فيه السمين.
أيها المعلم، كم هي عظيمة تلك الفضيلة التي تصاحبك أينما وطأت قدماك، تحمل سراج النور بين طلّابك، وتنشر التسامح وسطهم، وتزرع التآلف في قلوبهم، ليِّن الجانب، حسن الوجه، كريم العطاء بعلمك، سخيّ بمعرفتك، لا تتأفف ولا تتذمر، غايتك العلم أن يبلغ وجهته، ومرادك ألا تنطفيء شموع النور بل تستمر وضّاءة يهتدي بها من أراد أن يسلك دروب الرشاد.
أيها المعلم العزيز .. مهما كتب الكاتبون، وقال القائلون، ومدح المادحون في شخصكم الكريم؛ نبقى مقصّرين في حقكم، مجحفين في عطائكم، فأنتم النهر الذي لا تعيقه حدود، ولا تقف في مجراه عوائق، يتدفق بالخير، ويجد أثره الجميع.

قد ينظر البعض لهذا اليوم انه عابرًا كغيره ولكن في الواقع هو يوم لا ينتهي صداه، ولا يتوقف مداه، يبقى أثره في نفوس الجميع، فالمعلم حاملًا للمسك، يبقى شذاه حتى وإن فارقت الروح الجسد.
شكرًا لك معلمي العزيز ليس حروفًا تكتب فقط، ولا شعارات ترفع، ولكنها أفعال تترجم واقعًا، شكرًا لأنه بسببك أنت استطعتُ كتابة هذه الحروف برغم ضعفها وركاكتها، شكرًا لأنك كنتَ السبب بعد الله في أن اهتدي النجدين، فأسلك ما يشرّفك من طريقٍ ارتفعُ به، ويسرّك أن تراني فيه، ولا يخجلك أن تقول في يومٍ من الأيام أنه كان تلميذًا لي ذات يوم، شكرًا لك لأنك أقلت عثراتي، وجبرت كسري، وقوّمت اعوجاجي ولم تتذمر أو تتأفف برغم اخفاقي، شكرًا لك لأنك منحتني الثقة لأن أكون شيئًا فكُنتُ بمشيئة الله.
معلمي العزيز قد ترفع الأقلام وتجف الصحف إلا أن أقلامكم وصحفكم لا يصيبها جفاف، فبوركتم أينما كنتم، ودمتم مصابيح يُستضاء بها .