سيرة صحافي اقتنص فكرة

مزاج الأحد ٢٤/فبراير/٢٠١٩ ٠٥:٤٥ ص
سيرة صحافي اقتنص فكرة

القاهرة - مسقط - خالد البحيري

لو أن الراحل –المغفور له بإذن الله- الأستاذ عيسى الزدجالي مؤسس مجموعة مسقط للإعلام ورئيس تحرير «تايمز أوف عمان» ترك مذكرات تؤرّخ لحياته والحقبة الزمنية التي عاشها لكنت -دون تردد- وضعت لها عنوانا هو: «بلا توقف» فخلال ستة عقود كاملة منذ العام 1954 وحتى العام 2013 كانت رحلة طويلة مليئة بالتحديات والصعوبات، بالألم والأمل، بالإنجاز والتميز، لم يستسلم خلالها للسكون والراحة، وكأنه في سباق مع الزمن، أبى إلا أن يخرج منه رابحا، وفي رصيده مؤسسة إعلامية لا نبالغ إن قلنا إنها الآن واحدة من أهم وأعرق المؤسسات الإعلامية ليس في عُمان فحسب، بل في الخليج والمنطقة العربية.

(1)
قناعتي بأن الرجل كان يرفع شعار «بلا توقف» تعمقت أكثر بعد جلسة حوارية جمعتني قبل نحو 3 أسابيع بأحد أصدقاء المرحوم الأستاذ عيسى الزدجالي، في قلب العاصمة مسقط، فعلى مدار أكثر من 120 دقيقة وأنا أستمع واستمتع بما يرويه الرجل عن قصة كفاح صديقه ورفيق دربه، وما يحتفظ به في ذاكرته ووجدانه من معلومات وقصص وحكايات تروى وتؤرّخ لجيل الشباب كيف كان آباؤهم ينحتون في الصخر من أجل حياة أكثر جودة، ووطن تعم النهضة أرجاءه.
وكيف كان هذا الجيل من العمانيين عشاقا ومحبين للثقافة والعلوم والفنون، يفيض بعضهم على بعض بما أنعم الله عليه ورزقه به من مؤلف جديد طبع في مصر أو لبنان وجاءه بعد عناء ومشقة، فيرسله إلى إخوانه في الشرقية أو الباطنة بعد قراءته لتعم الفائدة، أو صحيفة تأتيه عبر اشتراك بالبريد، فيحافظ عليها حتى يوصلها إلى احدى الولايات ليطلع أصدقاؤه على ما فيها من معلومات.
سألت مُضيّفي عن صديقه الذى لازمه منذ الطفولة في دراسته الابتدائية فقال: كان عيسى –رحمه الله- أشبه ما يكون بعٌمان، ففيه من ملامحها وصفاتها ما لا يخفى على ذي عينين، فقد كانت السماحة أحد أهم صفاته كما هي صفة متأصلة في العمانيين منذ مئات السنين، سماحة في القول والفعل، جعلت كل زملائنا منذ الطفولة يكنون له الحب والتقدير.
ومع هذه السماحة تراه عفيف النفس واللسان شامخا كما هي جبال عمان، متسع الرؤية والأفق كما هي اطلالتنا على بحر عمان التي ننظر بها إلى العالم من حولنا بانفتاح لا تحده حدود أو تمنعه حواجز اللهم إلا مبادئ ديننا الحنيف وعاداتنا وتقاليدنا التي ورثناها عن الآباء والأجداد، شديد التحمل والصبر كما هي حياة البحارة والصيادين ، لا يتعجل لرزق ولا يجزع لضائقة، موقن بأن خزائن الله وعطاياه إنما تفتح بالصبر والجد والعمل والإخلاص.
ومع كل هذا وذاك تجده ليّن الطباع، طيب القلب، كما هي سهول عمان وأوديتها، يقصده كل ذي حاجة أو مكروب فيعود مجبور الخاطر، وقد روى ظمأه كما تروى مياه الأفلاج الأرض الهامدة فتصبح مخضرة بإذن ربها تنبت من كل زوج بهيج.

(2)
سألت مضيفي من جديد عن البدايات ومرحلة الطفولة، فلطالما كانت هي الأصعب، ولما لا والمخاض شاق وعسير؟ فقال: عيسى الزدجالي -رحمه الله- نشأ يتيم الأبوين، لكن يمكن أن نقول عنه إنه رجل تعهد نفسه بنفسه فرباها وأدبها، وأحسن تهذيبها، فلم يجلس في بيته في انتظار معونة من محسن، أو مساعدة من فاعل خير، وإنما خرج ساعيا على رزقه وعمره لم يتجاوز 15 عاما، وتكبد مشقة السفر والترحال للعمل مثل كثير من العمانيين في هذا التوقيت خارج البلاد، وكان الناس يتعجبون لصغر سنه وإصراره على العمل وتحقيق الذات وظل يكابد ويشق طريقة في السعودية والكويت وغيرها من البلدان .. لطالما قلنا فلان «رجل عصامي» أما عيسى –رحمه الله- فيمكن أن نقول إنه «طفل عصامي» حمل في جيناته القوة والصبر والعزيمة في وقت كان أقرانه يلهون ويلعبون في الطرقات.
عاودت السؤال مجددا .. متى كانت العودة؟ وهل من حيثيات لقرارها؟ .. فأجابني وقد علت محياه ابتسامة صافية وكأنه يتذكر واحدة من أعز اللحظات التي مرت عليه في حياته، قائلا: أنه البيان الأول الذي غير حياة العمانيين ونقلنا من عالم تغطيه ظلمه حالكة إلى نهضة عمت ربوع بلادنا من أقصاها إلى أقصاها .. إنني أتذكر كلماته كأنها اليوم، ولا يزال صوت جلالة السلطان قابوس بن سعيد حفظه الله ورعاه يدوى في آذاني وهو يقول: «شعبي وإخوتي .. كان بالأمس ظلام ولكن بعون الله غدا سيشرق الفجر على مسقط وعمان وعلى أهلها».
ما كان لعيسى وإخوانه من العمانيين العاملين في الخارج إن يتخلفوا عن نداء الوطن، فشمروا عن ساعد الجد وانخرطوا في البناء والتنمية مسخرين كل خبراتهم في الخارج وما اكتسبوه من مال من أجل تحقيق هذا الهدف النبيل.

(3)
مرة أخرى يلح السؤال عن قرار مهم ومصيري لماذا يستقيل رجل من وظيفة مرموقة بوزارة الخارجية العمانية ويتفرغ لأعماله الخاصة؟ أليست مخاطرة؟ وهنا جاءني الرد من مضيفي قائلا: الجواب على هذه الجزئية يكشف لك ملمحا مهما من ملامح شخصية عيسى الزدجالي .. لم يكن الرجل شخصية تقليدية تحتويه الوظيفة أو تشبع طموحاته، فهو يحب المغامرة ويتحمل مسؤولية قراراته بشجاعة، وهو أمر غير متوافر في الوظيفة الحكومية بشكل عام، إذ إن لها قواعد ونظم في اتخاذ القرار يختلف عما هو معمول به في القطاع الخاص، فقرر الانعتاق من تلك القيود والعمل بحرية .. وللحق فقد كان جريئا في اتخاذ القرار وشجاعا في تحمل تبعاته، وهكذا هي التجارة وكما يقول إخواننا في مصر «مفيش حلاوة من غير نار».
ودعني هنا اقص عليك قصة تنبئك عن طبيعة الرجل .. في فترة من الفترات كانت السلطنة تعاني نقصا في اللحوم الحمراء وكان المعروض لا يكفي، فقرر عيسى الزدجالي أن يساهم في حل هذه الأزمة وبسرعة اتفق مع المسؤولين على منحه مساحة من الأرض في منطقة جبلية لتكون مكانا لاستقبال المواشي التي ينوي استيرادها وبالفعل جاءته الموافقة، وأنهى اجراءات الاستيراد وخلال فترة وجيزة تم حل الأزمة وأصبح هو واحدامن أفضل وأشهر العاملين في هذا المجال.
وللحق فلم يكن الربح هو الهدف الأسمى في توجهاته وقراراته، ولكن دافعا وطنيا، لا يقل أهمية عن الربح كان يسيطر على الرجل بشكل دائم في أنشطته التجارية، فهو لا يزاحم ولا يتكالب على نوع من أنواع التجارة للكسب السريع، وإنما يرى ويتفحص ما يحتاجه السوق العماني ويسارع إلى توفيره، بغض النظر هل سيجني ربحا أم أن الأمر يقتصر على مبادرة وطنية تعود بالنفع على أبناء وطنه فحسب.

(4)
كان الوقت في حضرة مضيفي يمر سريعا، ورغم ثراء الحديث والثقافة الواسعة للمتحدث إلا أن السؤال الأخير قد وضع نقطة النهاية لهذا الحديث المميز، إذ سألته: مضت ست سنوات على رحيل صديقك فهل من رسالة أخيرة؟ .. فقال: من قال إن عيسى الزدجالي قد رحل؟ لقد فارقنا جسده فقط، لكن سيرته الطيبة وأفعاله الخيرة التي يشهد لها الجميع لا تزال ماثلة بيننا، ذكريات الطفولة، وضحكات الشباب، ولحظات السعادة، والتشارك في المناسبات الحلوة، كلها لا تزال تمر بخاطري فيبتهج لها فؤادي وتنتعش ذاكرتي.
وفي الختام أقول: رحم الله رجلا عصاميا، أسس لمدرسة صحفية وإعلامية هي بنظري الأولى بين نظيراتها ولها مكان الصدارة والريادة .. رحم الله رجلا حمل هموم وطنه وطموحات اخوانه فكان لهم خير معين .. رحم الله رجلا طيّب الله ذكره على الألسن، وزرع محبته في القلوب، فكان نموذجا يحتذى في الخلق والعلم والإنسانية.