فخ الإيديولوجية

مقالات رأي و تحليلات الأحد ٢٤/فبراير/٢٠١٩ ٠٤:١٠ ص
فخ الإيديولوجية

شلومو بن عامي

أعلن الرئيس دونالد ترامب حالة الطوارئ الوطنية على الحدود الجنوبية للولايات المتحدة ــ حيث لا توجد طوارئ على الإطلاق ــ من أجل الحصول على التمويل لبناء الجدار الذي وعد أنصاره ببنائه خلال حملته الانتخابية في عام 2016. وهذا مثال آخر على التوتر الدائم ــ والخطير ــ بين العقل والإيديولوجية في صنع السياسة.

إن السياسات المستندة إلى الأدلة، أيا كانت أوجه القصور التي تعيبها، تحظى دائما بفرصة أفضل للنجاح مقارنة بالسياسات التي تحركها الإيديولوجية، لأنها تسمح بالتكيف مع الظروف المتغيرة والبيانات الجديدة. على النقيض من ذلك، قد لا تكون السياسات المتولدة عن مبادئ جامدة متوافقة مع الواقع على الإطلاق.

والتاريخ عامر بالعواقب الكارثية الوخيمة المترتبة على اختيار الإيديولوجية وليس الواقع. وبشكل خاص، لم يكن أدولف هتلر يعتقد أن العِلم من الممكن أن يفي بمطالب الشعب الألماني؛ كانت ألمانيا في احتياج إلى إخضاع مناطق شاسعة، الأمر الذي تطلب تحويل أساطير فاجنر القائمة على التفوق التيوتوني إلى سياسات تستهدف فرض الهيمنة الإمبريالية. ولم يتغلب جوزيف ستالين، الذي كان رئيس نظام آخر قائم على الإيديولوجية، إلا لأنه ابتعد عن الحتميات المطلقة على وجه التحديد وأسس أهدافه في الحرب على المصلحة الذاتية الهادئة العقلانية.
أما عن الولايات المتحدة، فإن ترامب ليس أول رئيس يختار الإيمان بدلا من العقل. فمثله كمثل ترامب، كان جورج دبليو بوش يعتقد أن رئاسته تشكل جزءا من خطة إلهية مقدسة، وقد شن حروبه في أفغانستان والعراق كجزء مما أسماه شخصيا «حملة صليبية».
كانت استراتيجية الأمن الوطني التي انتهجها بوش في عام 2002 تسترشد صراحة بمبادئ أمريكا، وليس مصالحها. وكان ديك تشيني نائب الرئيس بوش يأخذ هذا الأمر على محمل الجد: ففي عام 2003، رفض اقتراح «الصفقة الكبرى» الإيراني ــ الذي كان ليعمل على إنهاء برنامجها النووي وسياستها الخارجية الهدّامة ــ على أساس أن الولايات المتحدة «لا تتفاوض مع الشر».
تدعم إدارة ترامب، وعلى نطاق أوسع الحزب الجمهوري الأمريكي، هذا التقليد. ولن يكون أي قدر من الأدلة التي تثبت أن المهاجرين كانوا يشكلون ضرورة أساسية لنجاح أمريكا كافيا لإرضاء قاعدة ترامب الانتخابية المعادية للمهاجرين. أما التحايل على الدستور الأمريكي لبناء جدار باهظ التكلفة، وكارثي على المستوى البيئي، وغير ضروري على الإطلاق، فسوف يرضيهم.
على نحو مماثل، لا يزال العديد من الجمهوريين، بما في ذلك ترامب، ينكرون التهديد المتمثل في تغير المناخ، ويرفضون الإجماع العلمي شبه العالمي. في الماضي، كان ترامب مبتهجا للغاية بحركة مكافحة اللقاحات المتنامية، حتى أنه صرح على موقع تويتر بشكل متكرر حول صلة محتملة بين اللقاحات ومرض التوحد، على الرغم من عدم وجود أي دليل يشير إلى مثل هذه الصلة. ويزعم الجمهوريون أن الولايات المتحدة، على الرغم من كونها الدولة الأكثر ثراء في العالَم، لا يمكنها أن تتحمل تكاليف ضمان الوصول الشامل إلى الرعاية الصحية الميسرة، والتي ترقى على أية حال إلى اعتداء اشتراكي على الحرية الشخصية.
يستخدم الجمهوريون في الولايات المتحدة حججا مماثلة لمعارضة جعل التعليم العالي أكثر يسرا من حيث التكلفة. الآن، تحتل ديون الطلاب، التي تبلغ 1.5 تريليون دولار، المرتبة الثانية مباشرة بعد ديون الرهن العقاري بين فئات ديون المستهلكين الأكبر في أمريكا، ومع ذلك فإن دعم التعليم على نفس مستوى دعم القروض العقارية يأتي كفكرة غير مقبولة على الإطلاق. وينطبق نفس الأمر على السياسة الضريبية، حيث يدعو الجمهوريون على نحو لا ينقطع إلى فرض ضرائب أقل على أصحاب الدخول الأعلى، على الرغم من الأدلة الواضحة التي تؤكد أن الفوائد لا «تتقاطر إلى الأسفل» إلى بقية الاقتصاد، كما يزعمون. والولايات المتحدة ليست وحدها في هذا. ففي المملكة المتحدة، كانت دراما الخروج من الاتحاد الأوروبي بالكامل مدفوعة من قِبَل متعصبين. ففي تشبثهم برؤية عفا عليها الزمن لبريطانيا بوصفها قوة عالمية عظمى، يزعم أنصار الخروج أن الاتحاد الأوروبي يعيق المملكة المتحدة. كما يزعمون أن عقد اتفاقيات تجارية جديدة مع الكومنولث ــ الذي لا يزال يشكل في اعتقادهم الإمبراطورية البريطانية ــ والقوى الناشئة مثل الصين، من شأنه أن يسمح للمملكة المتحدة باستعادة مكانها الصحيح على المسرح العالَمي بشكل مستقل.
ولأن المتعصبين الإيديولوجيين معتادون على هذا، فإن أنصار الخروج يتجاهلون الحقائق باستمرار. ولم يكن أي منهم قادرا على طرح خطة متماسكة أو قابلة للتطبيق لتحقيق رؤيتهم المتمثلة في الانفصال الكامل عن الاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، يجد كثيرون، مثل المحافظ مايكل جوف، سعادة غامرة في الاستهزاء بالخبراء، كما لو أن المعرفة والخبرة لا يستحقان اعتبارهما عنصرين مؤثرين في هذه القضية.
يُقال إن التعصب لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في أوساط المحافظين ــ بل وحتى افتقار حزب العمال إلى موقف قوي بشأن هذه القضية ــ ينبع جزئيا من إرث المملكة المتحدة في فك الارتباط عن أوروبا في ثلاثينيات القرن العشرين. في ذلك الوقت، كان العديد من الساسة البريطانيين يركزون على التهديد الذي يفرضه على المملكة المتحدة إصرار النازيين الواضح على تغيير توازن القوى الدولي.
اليوم، لا تشكل أوروبا مثل هذا التهديد. ومع ذلك، ذهب الفيلسوف البريطاني جون جراي، على سبيل المثال، إلى تصوير الخروج البريطاني على أنه أفضل دفاع للمملكة المتحدة ضد إعادة ماضي أوروبا الاستبدادي «المظلم». ويعتقد العديد من أنصار الخروج أن انهيار الاتحاد الأوروبي الكامل أمر لا مفر منه. وربما يستحق الأمر أن يُترَك حكم أوروبا لنوع من الإمبراطورية الروسية-النمساوية، طالما عادت بريطانيا إلى حكم البحار مرة أخرى.
ويُظهِر الانفصاليون في كتالونيا تركيبة مماثلة من الانعزال المتغطرس عن الواقع والخيال الذي لا يخلو من مفارقة تاريخية في التعامل مع إسبانيا. إذ يعتقد الكتالونيون أنهم أكثر كدحا واجتهادا وإبداعا ــ بل وحتى أنقى عرقا ــ من الإسبانيين الذين يفترضون فيهم الكسل وقِلة الإنتاج. وهم يزعمون فضلا عن ذلك أن الإسبانيين أكثر ميلا لقبول الاستبداد. وفي التزامها بخنق إبداع كتالونيا وريادتها في مجال الأعمال، فإن الحكومة الديمقراطية في إسبانيا لا تختلف إلا قليلا عن نظام فرانسيسكو فرانكو. يفتخر أهل كتالونيا بحكمتهم الكتالونية القديمة، في حين يفتخر البريطانيون بحسهم السليم. لكن الانفصاليين في كتالونيا وأنصار الخروج في المملكة المتحدة حبسوا أنفسهم ــ وإخوانهم المواطنين ــ في سُترة مجانين إيديولوجية.
الحق أن الإيديولوجية أداة قوية لتعبئة أجندة سياسية واسعة، والتأثير على الرأي العام، وتقييم الأهداف البديلة. لكن الولع المرضي القائم على اليقين الأعمى يكاد يؤدي بشكل دائم إلى سياسات رديئة، وخاصة في وقت يتسم بالتغير الاقتصادي السريع وتعمق حالة عدم اليقين الجيوسياسي. وعلى حد تعبير عالِم النفس الأمريكي أبراهام ماسلو الشهير: «من المغري دائما، إذا كانت الأداة الوحيدة المتاحة لك هي المطرقة، أن تتعامل مع كل شيء كما لو كان مسمارا». وهذه، كما قد يقول ترامب بوجه جاد، هي الكيفية التي تبنى بها الجدران.
وزير خارجية إسرائيل الأسبق، ونائب رئيس مركز توليدو الدولي للسلام حاليا، ومؤلف كتاب «ندوب الحرب وجراح السلام: المأساة الإسرائيلية العربية».