العلم والخدع في الاقتصاد

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ٢٠/فبراير/٢٠١٩ ٠٤:٤٧ ص
العلم والخدع في الاقتصاد

جاياتي غوش

تميل الاقتصادات السائدة إلى اتخاذ القرارات بشأن بعض الاستنتاجات «المؤكدة» والتمسك بها، رغم كل الأدلة التي تثبت عكس مضمون هذه الاستنتاجات. وهذا سيئ بما فيه الكفاية، لكن ما قد يكون الأسوأ بالنسبة لفرع من المعرفة يثبت أحقيته في أن يكون أحد الفروع العلمية، هو ضعف الإصرار على أن النتائج التجريبية قابلة للمماثلة. ويعتبر هذا معيارا ضروريا في معظم العلوم الطبيعية؛ وبالمقابل، في الاقتصاد، هناك على الخصوص عدم الاكتراث بهذا المعيار وأحيانا مقاومة شرسة له. وفي بعض الحالات، لا يسمح للباحثين الآخرين الاطلاع على البيانات التي ينبغي استعمالها لمماثلة الاستنتاجات. وغالبا ما يكون السبب سياسا إلى حد كبير، لأن النتائج التي تم ترويجها ونشرها تتماشى مع رؤى الاقتصاد التي تدعم مواقف أيديولوجية معينة ومرتبطة بمواقف سياسية. مثلا، يحظى العمل التجريبي الذي يدعم التقشف المالي أو نزع القيود بالكثير من التنويه، كما أنه أصبح الركيزة للنهوض بتلك الحصائل السياسية الخاصة. ونادرا ما يخضع عمل كهذا للفحص- مثلا، تحدي افتراضاته وانتقاد عملياته الإحصائية- وسيكون هذا قاعدة للأبحاث في العلوم الطبيعية.

لنأخذ على سبيل المثال ادعاء ستيفن مور وآرثر لافر أن سياسة تقليص الضرائب التي اعتمدها ترامب في الولايات المتحدة الأمريكية لن تحقق أرباحا فقط، بل ستقلص أيضا من عجز الحكومة، وفي نفس الوقت ستوفر المزيد من الاستثمارات. لقد كانا مخطئين تماما، لكن إلى حد ما، يبدو أن الحقيقة الاقتصادية بالكاد كان لها تأثير على هؤلاء الذين لا زالوا يؤمنون بتصريح لافر كورف الذي أكد أن المعدلات المنخفضة للضرائب ستولد مداخيل ضريبية كبيرة.

واليوم، تلغي بشكل كلي دراسة جديدة أنجزها سيرفاس ستورم عبارة أخرى مشهورة للاقتصاد النيوليبرالي: والتي تقول أن «صرامة» سوق الشغل يضعف الإنتاجية والتشغيل. ومن بين الأبحاث التي غالبا ما تحظى بالتنويه بشأن هذا الكلام، هي دراسة كتبه تيموثي بيزلي وروبين بورغيس، مستعينين بالبيانات المتعلقة بالولايات الهندية في الفترة ما بين 1958 و1929. وقال بيزلي وبورغيس أنهما أثبتا أن القوانين التي تدعم العمال في بعض الولايات أدت إلى انخفاض المردود والتشغيل والاستثمار والإنتاجية، بل أدت أيضا إلى ارتفاع الفقر في المناطق الحضرية، التابعة للولايات التي لم تعتمد هذه القوانين.
وجاء هذا الاستنتاج ليدعم الاعتقاد السائد أن قوانين سوق الشغل مضرة بالتوسع الصناعي، وأن السبيل نحو الرفع من مستوى الإنتاج والتشغيل في مجال الصناعة هو تعزيز «مرونة» سوق الشغل، من خلال إلغاء القوانين التي تحمي العمال. وانتشر هذا الاعتقاد ليس فقط في الهند؛ بل تأثرت به سياسات أخرى في العديد من الدول النامية. ورغم أن العديد من الخبراء الاقتصاديين عبروا عن قلقهم البالغ بشأن المنهجية التي يعتمدها بيزلي وبورغيس، لم تُثِر انتقاداتهم انتباه الكثير من صناع القرار.
لكن انتقاد ستورم جوهري أكثر، لأن دراسته تخبرنا عن الفشل في مماثلة استنتاجات بيزلي وبيرغيس، وتبين أن استنتاجهم بشأن تأثير قوانين الشغل على الإنتاجية الصناعية ليست قوية إحصائيا. ولاحظ أن النتائج ليست فقط متناقضة مع افتراضات النظرية للكاتب، بل من المستبعد تطبيقها. ووصل ستورم إلى استنتاج مدمر مفاده أن «الدراسة إحراج احترافي.. إنه يظهر بطريقة ممتازة كيف يمكن للدمج بين ادعاء علمي ورغبة عميقة في القبول أن تؤدي إلى تجريبية مجانية تأخذ فيها الأولويات الغلبة على حساب الدلائل.
إذا كيف خرج بيزلي وبورغيس من هذا المأزق، ولماذا لم يُلق بهذه النتائج في بشكل شامل في المقالات المتخصصة والدوائر السياسية؟ ففي نهاية المطاف نُشرت هذه الدراسة في صحيفة اقتصادية عالية الجودة مزدوجة التعمية، كما أنها خضعت لمراجعة النظراء. لقد استُعملت لتبرير موجة من تخفيف قوانين سوق الشغل عبر العالم، والتي تُضر بالعمال بشكل فعال. وفي هذا السياق، ينبغي أن يُساءل الاشتراك العميق لمهنة الخبراء الاقتصاديين- واشتراك الجرائد الاقتصادية السائدة التي تكن «الاحترام» لهذه الأبحاث.

ليس سرا أن الاقتصاد السائد يعمل لخدمة السلطة. فقد كتب جون كينيث غولبريث عام 1973 أن اقتصاد التأسيس أصبحت «حليفا لا يقدر بثمن لهؤلاء الذين يمارسون سلطة تعتمد على شعب مطيع». وبالمقابل، يتزايد ترحيب الخبراء الاقتصاديين بهذه المكانة بشكل ملحوظ، لكنه أَضعفَ من صلته ومن شرعيته ومن مصداقيته. ولم يعد يَرى جزءا كبيرا من الشعب الخبراء الاقتصاديين يطرحون الأسئلة المناسبة، أو يسعون للإجابة عليها تماما.

ومن أجل استرجاع المصداقية، من الضروري أن يصبح الاقتصاد أكثر تقبلا لانتقاد الافتراضات والمنهجيات والنتائج. إن الحقيقة غير المريحة التي تبوح بها أصوات معارضة لا يمكن تجاهلها إلى الأبد.

أستاذة علوم الاقتصاد بجامعة جواهر لال نهرو في نيودلهي وعضوة في اللجنة المستقلة لإصلاح ضرائب الشركات الدولية