الأموال القذرة والعمل الخيري الملوث

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ١٢/فبراير/٢٠١٩ ٠٤:٥٥ ص
الأموال القذرة والعمل الخيري الملوث

بيتر سينجر

في عام 2017، انخفض متوسط العمر المتوقع في الولايات المتحدة للعام الثالث على التوالي. ويحدث هذا الانخفاض لأن الزيادة في معدل الوفيات بين أصحاب البشرة البيضاء في منتصف العمر تعوض عن انخفاض معدل الوفيات بين الأطفال والمسنين. لماذا إذن يموت عدد أكبر من متوسطي العمر من الأميركيين؟

أشار الخبيران الاقتصاديان آن كيس وأنجوس ديتون من جامعة برينستون إلى الوباء الأفيوني كعامل مهم. وتُظهِر الأرقام الواردة من المراكز الأميركية لمكافحة الأمراض والوقاية منها أن ما يقرب من 218 ألف شخص توفوا في الفترة من 1999 إلى 2017 بسبب جرعات زائدة من مواد أفيونية موصوفة طبيا. وخلال هذه الفترة، تضاعف عدد مثل هذه الوفيات خمس مرات.

الواقع أن الدواء الأكثر مسؤولية عن إساءة استخدام المواد الأفيونية الموصوفة على هذا النحو الكارثي يسمى OxyContin، وهو دواء تنتجه شركة Purdue Pharma LP، التي تفيد التقارير أنها حققت أكثر من 31 بليون دولار من مبيعات هذا الدواء. لم تكن هيمنة الـOxyContin بين المواد الأفيونية الموصوفة راجعة إلى أي مزايا كامنة؛ فقد خلصت تجارب عديدة مضبوطة بدقة إلى أنه يفتقر إلي أي مزايا خاصة. بل يدين هذا الدواء بنجاحه لجهود التسويق القوية التي أدارتها الشركة بقيادة آرثر ساكلر.
بوردو فارما شركة ذات ملكية خاصة وقد نجحت في توليد ثروة هائلة لمالكها ساكلر، وأخويه مورتيمر وريموند، وأحفادهم. توفى آرثر ساكلر في عام 1987، قبل ثماني سنوات من إطلاق OxyContin في الأسواق، لكنه مهد الطريق لنجاح تسويقه من خلال توجيه قوة مبيعات الشركة لدعوة الأطباء لحضور مؤتمرات في مواقع جذابة في فلوريدا، وأريزونا، وكاليفورنيا، مع تغطية كل النفقات. كما عرضت عليهم شركة بوردو مشاركات مدفوعة في أحاديث مذاعة. وتلقى ممثلو المبيعات مكافآت كبيرة تباينت تبعا للكميات الموصوفة من الدواء بواسطة الأطباء الذين يزورونهم- وكان مندوبو المبيعات الناجحون بشكل خاص يحصلون على مكافآت تتجاوز 200 ألف دولار.
اجتذب الدور الذي لعبته شركة بوردو في تحفيز الوباء الأفيوني انتباه السلطات الفيدرالية. في عام 2007، أقرت الشركة وثلاثة من مسؤوليها التنفيذيين بالذنب في اتهامات تتعلق بإساءة استعمال العلامة التجارية للدواء OxyContin، ووافقت على دفع 634 مليون دولار كغرامات. ولكن حتى وقت قريب كانت عائلة ساكلر قادرة على تجنب قدر كبير من الانتقادات لسلوك شركتهم. لكن هذا تغير في الشهر الأخير، عندما تقدمت ولاية ماساتشوستس بوثائق في دعوى قضائية ضد الشركة وستة عشر من مسؤوليها التنفيذيين وأفراد العائلة، بما في ذلك ابن أخ آرثر ساكلر، ريتشارد ساكلر. كما أضافت مدينة نيويورك وحكومات محلية أخرى أعضاء فرديين من عائلة ساكلر إلى دعاواهم القضائية التي تطالب بالحصول على تعويضات عن أضرار من شركة بوردو. تزعم دعوى ولاية ماساتشوستس أن أفرادا من عائلة ساكلر استمروا في دفع المبيعات من الدواء لفترة طويلة بعد أن أدركوا أنه خطر ومسبب للإدمان. وكان رد الشركة هو إعادة توجيه اللوم. في عام 2001، كتب ريتشارد ساكلر، رئيس الشركة آنذاك، في رسالة بريد إلكتروني، أن الشركة ينبغي لها أن «تهاجم المسيئين بكل طريقة ممكنة»- وهو التعليق الذي قالت جوان بيترسون، التي تتولى رئاسة شبكة الدعم لأسر متعاطي الدواء، أنه يُظهِر «تجاهلا صارخا للحياة البشرية».
استخدم آل ساكلر بعض ثرواتهم لدعم الفنون. وأصبحت أسماؤهم على الأجنحة، والمعارض، وغير ذلك من المساحات في العديد من المتاحف البارزة، بما في ذلك متحف متروبوليتان ومتحف جوجنهايم في نيويورك، ومتحث سميثسونيان في واشنطن العاصمة، ومتحف اللوفر في باريس، والأكاديمية الملكية للفنون ومتحف تيت في لندن. وهناك أيضا مدارس ومعاهد ومكتبات ومراكز ساكلر في جامعات تافتس، وأكسفورد، وكمبريدج، وكولومبيا، وتل أبيب، والعديد من الجامعات الأخرى، فضلا عن محاضرة ساكلر في جامعة برينستون، حيث أقوم بالتدريس.
الواقع أن خسارة عائلة ساكلر لشعبيتها وسمعتها تثير قضايا أخلاقية كبرى للعديد من المؤسسات المحترمة. فالأموال التي بُذِلَت منذ عقود من الزمن، واستُخدِمَت لبناء معارض أو أجنحة جديدة، لا يمكن إرجاعها. ومع ذلك فإن العديد من المؤسسات ترفض الآن قبول الأموال من صناعة التبغ، ولن تقبل الإبقاء على اسم شركة تبغ، أو مالكها الرئيسي، على أحد مبانيها.
نان جولدن، المصورة الفوتوغرافية التي كانت أعمالها معروضة في متحف متروبوليتان للفنون ومتحف ساكلر في جامعة هارفارد، مدمنة مواد أفيونية متعافية. وهي تصف اسم ساكلر على المؤسسات باعتباره «إدانة» لأي مؤسسة، وقد عملت على تنظيم احتجاج عند جناح ساكلر في متحف متروبوليتان. أما مورين كيليهر، وهي فنانة عُرِضَت أعمالها على موقع يديره مركز إليزابيث ساكلر للفن النسوي في متحف بروكلين، فقد قرأت تقرير باتريك رادين كيفي في صحيفة نيويوركر بعنوان «الأسرة التي أقامت إمبراطورية من الآلام»، فطلبت إزالة أعمالها من الموقع على الإنترنت. (إليزابيث ساكلر هي ابنة آرثر ساكلر).
قبل أكثر من عام، قامت صحيفة نيويورك تايمز بفحص 21 منظمة ثقافية حصلت على مبالغ كبيرة من مؤسسات أشرف عليها مورتيمر وريموند ساكلر، اللذان كانا يديران شركة بوردو عندما أطلقت العقار OxyContin. ولم تُبد أي من هذه المنظمات أي إشارة إلى أنها قد تعيد التبرعات أو ترفض تبرعات في المستقبل. لكن الدليل المتاح علنا لترويج آل ساكلر للعقار OxyContin أصبح الآن أكثر إدانة مما كان عليه قبل عام. فهل تريد أي مؤسسة حقا أن تميز أسماء أشخاص تسبب سعيهم الحثيث إلى تحقيق الربح في كل هذه المعاناة؟

لدينا أسباب وجيهة تجعلنا نزعم أن اسم آرثر ساكلر ربما يبقى على الجناح في متحف متروبوليتان للفنون الذي يضم معبد دندور المصري القديم المذهل. كانت أساليبه التسويقية تخرق كل القيود الأخلاقية المفروضة على ما يمكن لشركات الأدوية أن تبذله من جهود لإقناع الأطباء بوصف منتجاتها لمرضاهم، لكن الضرر الحقيقي وقع عندما جرى تطبيق هذه الأساليب على دواء مسبب للإدمان بشدة مثل OxyContin. بحلول ذلك الوقت، كان آرثر متوفيا وباع ورثته شركة بوردو. وعلى هذا فإن إليزابيث ساكلر أيضا ليست مسؤولة عن ما حدث بعد ذلك.

الواقع أن التساؤل حول ما إذا كان من الجائز أن تقبل مؤسسات غير ربحية تبرعات من أفراد أسرة ساكلر الذين استفادوا من بيع دواء أدى إلى تحول مئات الآلاف من المستخدمين إلى مدمنين لابد أن ينفصل عن السؤال حول ما إذا كان من الجائز أن تحمل أي مؤسسة أسماءهم. يتعين على أفراد العائلة هؤلاء أن يعتذروا للضحايا، ولأسر أولئك الذين ماتوا، وأن يتعهدوا باستخدام ملياراتهم ليس للترويج للفنون، بل للحد من المعاناة، وإذا أمكن على نفس مستوى المعاناة التي جلبها حرصهم على تكديس الثروة. ويستلزم هذا التبرع لمؤسسات غير ربحية تعمل بأكبر قدر من الفعالية على الحد من الآلام، في أي مكان من العالَم. وسوف يكون قبول المتلقين للتبرعات من أموال آل ساكلر لهذا الغرض مبررا.

أستاذ أخلاقيات البيولوجيا في جامعة برينستون