الإصلاحات الهيكلية تحصن الاقتصاد الخليجي من التقلبات العالمية

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ٢٩/يناير/٢٠١٩ ٠٤:٠٠ ص
الإصلاحات الهيكلية تحصن الاقتصاد الخليجي من التقلبات العالمية

محمد محفوظ العارضي
رئيس مجلس الإدارة التنفيذي في إنفستكورب، رئيس مجلس إدارة بنك صحار

في وقت الحديث عن توقعات بتباطؤ نمو الاقتصاد العالمي في العام 2019، وسط تحديات تتلخص في تراجع معدلات التجارة والتصنيع على المستوى العالمي، تبرز أهمية الإصلاحات الهيكلية التي تجريها الحكومات الخليجية لتحصين اقتصاداتها من التقلبات العالمية المتوقعة عبر المزيد من الاهتمام بالقطاعات غير النفطية.
ورغم أن توقعات تقرير "الآفاق الاقتصادية العالمية" الصادر حديثاً عن البنك الدولي ترجح أن يسجل متوسط النمو في دول مجلس التعاون الخليجي معدلاً يبلغ 2.6 % في عام 2019، أي أقل من المتوسط العالمي خلال العام ذاته والبالغ 2.9 %، إلا أن النمو المتوقع في الاقتصاد الخليجي أفضل مما كان عليه في عام 2018، والذي لم يتخط كمتوسط حاجز 2 %.
ولا شك أن ارتفاع إنتاج النفط وأسعاره في 2018 لعب دوراً محورياً في تخفيف الضغوط الناتجة عن السياسات الرامية إلى ضبط أوضاع المالية العامة، بعدما لجأت بعض الدول الخليجية إلى ترشيد الإنفاق العام، إذ ساهمت زيادة الإيرادات النفطية في ارتفاع أرصدة حسابات المعاملات الجارية مما أتاح مجالاً لزيادة الإنفاق العام.
ومع التسليم بأهمية انتعاش النفط في رفع معدلات نمو الاقتصاد الخليجي، إلا أنه لا يمكن إغفال ما أحدثته سياسات التنوع الاقتصادي بعيداً عن النفط من أثر في السنوات الأربعة الفائتة مع ظهور مشاريع عملاقة تستهدف تعظيم الإيرادات غير النفطية في قطاعات ظلت لسنوات شبه مهملة مثل التكنولوجيا والسياحة والخدمات المالية وغيرها.
وبحسب توقعات البنك الدولي فإنه من المرجح أن يتعزز النمو الاقتصادي خليجياً في العام 2019، بفضل زيادة الاستثمارات وإصلاح اللوائح التنظيمية، وهو ما يؤكد أن العام 2018 كان فارقاً، إذ تخطت بعض الاقتصادات الخليجية حالة الانكماش التي تعرضت لها في عام 2017، مثل سلطنة عمان والمملكة العربية السعودية والتي سجلت نمواً اقتصادياً سلبياً بنسبة 0.9 % لكل منها، فيما كانت نسبة التراجع أكثر حدة في دولة الكويت مسجلةً 3.5 %، حسب بيانات البنك.
وبالطبع، يمكن الربط بسهولة بين مدى التقدم الذي تحرزه كل دولة خليجية في خططها للخروج من عباءة تقلبات النفط من جهة، وبين التوقعات الخاصة بقدرتها على تحقيق معدل نمو اقتصادي خلال السنوات الثلاثة المقبلة يضاهي أو يقترب من المتوسط المتوقع للاقتصاد العالمي من جهة أخرى، فمثلاً تشير توقعات البنك الدولي إلى أن سلطنة عمان سوف تسجل نمواً بنسبة 3.4 % بنهاية العام 2019، وهو ما يزيد على المتوسط المتوقع لنمو كل من الاقتصاد الخليجي والاقتصاد العالمي، ولكن هذا النمو سوف يتباطأ نسبياً في عامي 2020 و2021 إلى 2.8 %. وفي ذات السياق يتوقع البنك أن تزيد نسبة نمو الاقتصاد الإماراتي من 2 % في 2018 إلى 3 % عام 2019 ثم إلى 3.2 % في عامي 2020 و 2021.
وفي ما يخص الاقتصاد السعودي الأكبر خليجياً وعربياً، فمن المتوقع وفقاً للبنك الدولي أن يواصل النمو في السنوات الثلاث المقبلة ارتفاعه من 2 % في 2018 إلى 2.1 % في 2019 و 2.2 % خلال السنتين التاليتين، والأمر نفسه بالنسبة للاقتصاد البحريني ولكن بنسبة نمو أكبر تدور حول 2.8 % حتى 2021، وكذلك الاقتصاد القطري المتوقع أن يرتفع معدل نموه من 2.3 % في 2018 إلى 2.7 % في 2019 ثم 3 % في عامي 2020 و 2021.
ولا يمكن النظر إلى هذه التوقعات الجيدة لمعدلات نمو الاقتصاد الخليجي بعيداً عن الخطط الاستراتيجية المعتمدة لتنويع الأنشطة الاقتصادية واستحداث قطاعات جديدة غير تقليدية في هذه الدول، واللافت أن هناك تسارعاً ملحوظاً في تنفيذ هذه الخطط على أرض الواقع، ليس فقط المشروعات العملاقة التي تنفذ في كل الدول الخليجية، ولكن أيضاً على مستوى تهيئة البنية التشريعية والبيئة الاستثمارية لمرحلة جديدة من النمو المستدام بعيداً عن تقلبات أسعار النفط.
وتوالت منذ مطلع العام الجاري، المبادرات في دول الخليج لتعزيز بيئتها التشريعية والاستثمارية الجاذبة، فعلى سبيل المثال: أصبحت مملكة البحرين أول دولة في العالم تسن تشريعاً يعتمد تداول المستندات الإلكترونية متوافقاً مع القانون النموذجي الصادر عن لجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي المعروفة اختصاراً باسم "الأونسيترال". وتستهدف هذه الخطوة تعزيز البنية التشريعية في المملكة، وزيادة جاذبية الاقتصاد البحريني للاستثمارات الأجنبية، كما تأتي في إطار سلسلة من الإصلاحات التشريعية الشاملة الرامية إلى دعم الاقتصاد الرقمي في أسواق الخليج البالغة قيمته 1.5 تريليون دولار أمريكي. وبالتزامن مع هذه الخطوة أعلن صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد نائب رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي عن "المبادئ الثمانية لدبي" وجاء فيها تحت عنوان: "لا نعتمد على مصدر واحد للحياة" أن "تنويع الاقتصاد قاعدة في دستور دبي غير المكتوب منذ عام 1833. وتغير الزمن وسرعة التطورات يفرض الالتزام بهذا المبدأ دائماً وأبداً. وهدفنا الجديد: استحداث قطاع اقتصادي جديد على الأقل كل ثلاثة أعوام، قطاع منتج ومساهم في ناتجنا المحلي وموفر للوظائف وقادر على الاستمرار بقوة دفعه الذاتية."
ولا يختلف الأمر في باقي البلدان الخليجية التي تسابق الزمن لتنفيذ خططها التنموية الطموحة وهي: "رؤية السعودية 2030" و"رؤية الإمارات 2021" و"رؤية البحرين الاقتصادية 2030" و"رؤية قطر الوطنية 2030" و"رؤية الكويت 2035" و"رؤية عُمان 2040"، وفي تقديري أن ما أٌنجز حتى الآن في هذه الخطط يؤكد أن الاقتصاد الخليجي في المسار الصحيح، ولكن المطلوب مزيد من الجهد لترسيخ التوجه الجديد صوب النمو المستدام.