أحمد المرشد
تحكي كتب التاريخ أن الخليفة عمر بن عبد العزيز نصف أهل مدينة سمرقند في خلاف بينهم وبين قائد جيش المسلمين الذي ذهب لفتح المدينة ولم يمنح أهلها مهلة للتسليم كما هو متبع من جيوش المسلمين في الفتوحات الإسلامية، فاشتكوا على هذا القائد إلى عمر بن عبدالعزيز فقرر استشارة أحد القضاة وحكم لصالح المدينة أي أن ينسحب الجيش للحدود مرة أخري. وسأل أهل سمرقند القاضي عن حكمه فما كان رده سوي أن الخليفة عمر أوصاه بالعدل لأنه أساس الملك، بغيابه يعم الظلم والفساد. فالعدل معيار السعادة والحضارة ودعامة بناء الأمم، ومستقر أساسات الدول والجماعات، وباسط ظلال الأمن. والعدل هو غاية الرسالات السماوية كلها، متمثلا في قوله سبحانه: «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ».
نعود مرة أخري لهبات «الخريف العربي»، فلو كان الحكام التزموا بواجباتهم في حكم بلدانهم ورعاية مصالحها ومصلحة شعوبهم وتجنبوا ظلمهم، وأدوا الحقوق والأمانات الى أهلها، ولم يجعلوا مناصبهم بوابة لتحقيق المآرب الشخصية لهم ولأسرهم وحصد المغانم الدنيوية على حساب مصلحة الأمة وحقوقها، لما انهارت هذه الدول ورأينا حالها اليوم لا يسر عدو ولا حبيب. فانتشر الفساد وغاب العدل والتمييز أمام القانون وغيره بين البشر ما بين علية القوم وما دونهم.
مشكلتنا أن بعض الحكام يتناسون مهمة بسط العدل في ربوع بلدانهم، وبسط العدل كما هو مفيد للرعية مفيد أيضا للحكام، حيث يعود عليهم بإنصاف المواطنين لهم وطاعتهم والوقوف إلى جانبهم في الحق والخير، والعمل معهم على صيانة ضرورات الدين الخمس: الدين، والنفس، والعقل، والمال، والنسل، مع الإحسان إليهم بالنصح والإرشاد، امتثالا لأمر رسولنا الكريم: «الدين النصيحة»، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم».
لم نكن في حاجة للكتابة عن أهمية بسط العدل في بلاد العرب والمسلمين، خاصة إن الإسلام قد أرسي هذه المفاهيم لتكون سلوكا عمليا ونظاما سياسيا وخلقا اجتماعيا تقوم عليه الدولة بالعدل، حتى أصبح العدل ميزة من ميزات الأمة الإسلامية، وعلامة بارزة في نظامها السياسي والاجتماعي، ليس تجاه المسلمين فحسب، بل ومع الناس جميعًا بغض النظر عن أديانهم وأعراقهم، تطبيقا لما جاء في القرآن الكريم: «ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا».
ونحن نتحدث عن العدل، نتذكر قصص الفاروق عمر رضي الله عنه، ومنها أنه مر متسترا ليطلع علي أخبار رعيته فرأى عجوزا فسلم عليها وقال لها ما فعل عمر؟ قالت : لا جزاه الله عني خيرا . قال : ولم ؟ قالت : لأنه - والله - ما نالني من عطائه منذ ولي أمر المؤمنين دينار ولا درهم فقال لها: وما يدري عمر بحالك وأنت في هذا الموضع؟ قالت : سبحان الله ! والله ما ظننت أن أحدا يلي عمل الناس ولا يدري ما بين مشرقها ومغربها. فبكى عمر ثم قال: واعمراه ! كل أحد أفقه منك حتى العجائز يا عمر. ثم قال لها: يا أمة الله ، بكم تبيعني ظلامتك من عمر؟ فإني أرحمه من النار قالت: لا تهزأ بنا يرحمك الله..فقال لها : لست بهزاء، ولم يزل بها حتى اشترى ظلامتها بخمسة وعشرين دينارا.. وبينما هو كذلك إذ أقبل علي بن أبي طالب وعبدالله بن مسعود رضي الله عنهما فقالا : السلام عليك يا أمير المؤمنين، فوضعت العجوز يدها على رأسها وقالت: واسوأتاه أشتمت أمير المؤمنين في وجهه ! فقال لها عمر: لا بأس عليك رحمك الله، ثم طلب رقعة يكتب فيها فلم يجد ، فقطع قطعة من ثوبه وكتب فيها:» بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما اشترى عمر من فلانة ظلامتها منذ ولي إلى يوم كذا وكذا بخمسة وعشرين دينارا ، فما تدعى عند وقوفه في المحشر بين يدي الله تعالى فعمر منه بريء « وشهد على ذلك علي بن أبي طالب وعبدالله بن مسعود ورفع عمر الكتاب إلى ولده وقال( إذا أنا مت فاجعله في كفني، ألقى به ربي).
أرأيتكم ثمرة تطبيق العدالة في الكون، باتت الطيور في أعشاشها مطمئنة.. فكلمة من ثلاثة حروف تقام عليها الدول، فالله سبحانه وتعالى يقيم دولةٍ الأيمان على أساس العدل، والشعوب التي طبقت العدل حققت تقدما وإن لم تكن مسلمة، فالغرب والشرق أقام دوله علي أساس العدل فذابت الفوارق وانتشرت السعادة والطمأنينة وتأسست الحضارة والتقدم السياسي والاقتصادي، حتي وإن لم يكن بينهم سيدنا علي كرم الله وجهه الذي التزم بحكم القاضي بتسليم سيفه لليهودي لأنه لم يثبت أنه ملكه، في تصرف دفع اليهودي الي إشهار إسلامه، فعلي لم يبخس حق اليهودي في التقاضي ولم يفصل القاضي الذي عينه هو نفسه.
اذاً العدل ثم العدل.. به يستقيم الحكم ويشعر المواطنون بالمساواة.
كاتب ومحلل سياسي بحريني