هل شخصية روسيا استبدادية؟

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ٢٣/مارس/٢٠١٦ ٢٣:٥٥ م
هل  شخصية روسيا استبدادية؟

روبرت جيه. شيلر

كان العدوان الروسي ضد أوكرانيا وإذعان الرأي العام الروسي للسيطرة الحكومية المباشرة على وسائل الإعلام الإخبارية من الأسباب التي دفعت الناس إلى التساؤل حول ما إذا كان الروس يميلون إلى الاستبداد. ولعل هذا التساؤل يبدو منطقيا. ولكني تعلمت من خبرتي أننا لابد أن نتوخى الحذر الشديد في استخلاص الاستنتاجات حول الشخصية الوطنية من أحداث معزولة.
في عام 1989، دعيت لحضور مؤتمر اقتصادي في موسكو، في الاتحاد السوفييتي آنذاك، برعاية مشتركة بين المؤسسة البحثية السوفييتية IMEMO (التي تسمى الآن معهد بريماكوف للاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية) والمكتب الوطني للبحوث الاقتصادية في الولايات المتحدة. وكانت مثل هذه المؤتمرات المشتركة تمثل جزءاً من تطور تاريخي مفاجئ ناجم عن ذوبان جليد العلاقات الأميركية السوفييتية. وبدا الاقتصاديون السوفييت متحمسين بشأن الانتقال إلى اقتصاد السوق، وقد أذهلني مدى انفتاحهم وصراحتهم في التحدث إلينا خلال فترات استراحة القهوة أو العشاء.
ولكن الأمر المهم هو أن السوفييت أعربوا في المؤتمر عن شكوك جدية في احتمال أن يسمح عامة الناس للسوق الحرة بأداء وظيفتها على الإطلاق، بزعم أنهم ينظرون إلى أفعال السوق الفردية على أنها خاطئة وغير عادلة ولا يمكن تحملها.
وقد التقيت باقتصادي من IMEMO أحدث سنا، وهو مكسيم بويكو، وانبهرت بإخلاصه وفطنته. (أصبح في وقت لاحق نائباً لرئيس الوزراء الروسي ووزير أملاك الدولة في عهد الرئيس بوريس يلتسين، ثم ترك الحكومة الروسية قبل وصول فلاديمير بوتن إلى السلطة، ومؤخراً أتى إلى الولايات المتحدة حيث يعمل محاضراً في الاقتصاد في جامعتي هارفارد وبراون). وقد دارت بيننا محادثة رشيقة، وقلت له إن أميركيين كُثُر أيضاً يعتقدون أن الممارسات الرأسمالية غير عادلة. فهل كانت المواقف في البلدين مختلفة حقا؟
يبدو أن لا أحد على الإطلاق فَكَّر في إجراء استطلاع بشأن مثل هذه المواقف. ولكن في عام 1989، كان من الممكن أن نفعل ذلك على وجه التحديد. فقررنا على الفور إجراء استبيان دقيق لمقارنة المواقف تجاه الأسواق الحرة.
وبعد عمل شاق حول المعاني الدقيقة للترجمة والتداعيات الخارجية التي ربما تؤثر على إجابات المشاركين في الاستطلاع، توصلنا إلى مجموعة من الاستبيانات المتطابقة تقريباً باللغتين الروسية والإنجليزية. وقد أدرنا الاستطلاع (بمساعدة خبير الاستطلاع الأوكراني فلاديمير كوروبوف) في نيويورك وموسكو عام 1990، ثم نشرنا النتائج في المجلة الاقتصادية الأميركية عام 1991 وفي صحيفة MEIMO التابعة للمؤسسة البحثية السوفييتية عام 1992.
وكانت الاختلافات التي وجدناها في المواقف تجاه الأسواق الحرة صغيرة غالبا، وكان من الصعب أن نفهمها من منظور الاستبداد والديمقراطية. فعلى سبيل المثال، سألنا: "في أيام العطلات والأعياد، عندما يكون الطلب كبيراً على الزهور، ترتفع أسعارها عادة. فهل من العدل أن يرفع بائعو الزهور أسعارهم على هذا النحو؟" وكما توقع خبراء الاقتصاد من المؤسسة البحثية السوفييتية، رأى أغلب أولئك الذين أجابوا على هذا السؤال في موسكو (66%) أنه تصرف غير عادل. ولكن لم يخل الأمر من مفاجأة: فقد أسفرت الدراسة في نيويورك عن نتائج مطابقة تقريبا (حيث رأى 68% أنه تصرف غير عادل).
ولهذا، قررنا في العام الفائت أن نعرف ما إذا كان نفس التشابه بين موسكو ونيويورك قائماً إلى اليوم، أو ما إذا كانت المواقف تجاه الأسواق في روسيا أكثر سلبية الآن، نظراً لإحياء الحكم الاستبدادي هناك في الوقت الحاضر. وقد أدرنا الاستبيان المطابق في المدينتين عام 2015. وعرضنا النتائج في الاجتماع السنوي للجمعية الاقتصادية الأميركية في يناير.
في السؤال حول الزهور، وجدنا تغييراً طفيفاً للغاية في الموقف في موسكو (قال 67% إن رفع أسعار الزهور في الأعياد والعطلات غير عادل). وعلى النقيض من هذا، أصبح الرأي العام في نيويورك أكثر ميلاً إلى تأييد السوق (قال 55% إن رفع الأسعار غير عادل).
في دراسة 2015، قررت أنا وبويكو فحص المواقف تجاه الديمقراطية ذاتها. وقد تمكنا لحسن الحظ من العثور على دراسة أجراها في عام 1990 علماء السياسة جيمس جيبسون، وريموند دوتش، وكنت تيدن، والتي طرحت في موسكو أسئلة تجاوزت كما فعلت دراستنا الشعارات بهدف تقييم قيم أساسية. ورغم أن دراستهم لم تجر مقارنة مع نيويورك فقد فكرنا في إضافتها عام 2015.
والمثير للدهشة أن أغلب النتائج المتعلقة بالقيم الديمقراطية لا تدعم فكرة أن الروس يفضلون حكومة استبدادية قوية. على سبيل المثال، سألت دراسة العلماء الثلاثة في عام 1990 المستجيبين ما إذا كانوا يتفقون مع عبارة مفادها أن "الصحافة لابد أن تحظى بحماية القانون من الاضطهاد من قِبَل الحكومة". واختلف مع هذه العبارة 2% فقط عام 1990. وفي عام 2015 كان الروس أكثر ميلاً إلى رفض العبارة (لم يتفق معها 20%)، وهو ما يشير إلى تراجع القيم الديمقراطية. ولكن المفاجأة الحقيقية كانت النتائج التي توصلنا إليها في نيويورك عام 2015 عن نفس العبارة: لم يوافق عليها 27% من المستجيين. ويبدو أن أهل نيويورك أصبحوا أقل دعماً لحرية الصحافة من أهل موسكو اليوم!
وكان الاختلاف الأكبر على الإطلاق بين موسكو ونيويورك متمثلاً في البيان الذي طرحته دراسة العلماء الثلاثة: "الحياة في مجتمع يفرض نظاماً صارماً أفضل من مجتمع يسمح للناس بقدر كبير من الحرية إلى الحد الذي قد يجعلهم قادرين على جلب الدمار للمجتمع". في دراسة 1990، وافق 67% من أهل موسكو على هذا البيان، وفي عام 2015 ارتفعت نسبة الموافقين إلى 76%، في حين اتفق معه في نيويورك 36% فقط عام 2015. ولعل هذا الفارق على قدر كبير من الأهمية، ولكنه يمثل قيمة شاذة ــ فهو الفارق الأكثر تطرفاً بين موسكو ونيويورك في دراستنا بالكامل.
في عموم الأمر، وبرغم وجود الفوارق، لا تؤيد النتائج بقوة فكرة أن الأحداث الأخيرة لها تفسير بسيط من حيث الاختلافات في المواقف العميقة إزاء الأسواق الحرة أو الاستبداد. ومن الخطأ أن نعتبر روسيا مختلفة جوهرياً عن الغرب. في عام 1991، خلصنا إلى أن الشخصية الوطنية الروسية لم تكن تمثل عقبة تحول دون خلق اقتصاد سوق في روسيا ــ وقد تبين أننا كنا محقين. ونأمل أن نكون محقين مرة أخرى، وأن لا تكون الشخصية الوطنية سبباً في منع روسيا من التحول إلى مجتمع ديمقراطي حقيقي ذات يوم.

حائز على جائزة نوبل في علوم الاقتصاد عام 2013، والمؤلف المشارك،
لكتاب "تصيد الحمقى: اقتصاد الاستغلال والخداع".