البنوك المركزية والقيود المالية

مقالات رأي و تحليلات الاثنين ١٤/يناير/٢٠١٩ ٠٥:١٤ ص
البنوك المركزية والقيود المالية

كينيث روجوف

إذا سألت غالبية القائمين على البنوك المركزية حول العالم عن خططهم للتعامل مع الركود الاقتصادي التالي المعتاد الحجم، فستفاجأ بعدد كبير منهم (على الأقل في الاقتصادات المتقدمة) يجيبك بقوله: «الحل هو السياسة المالية». ولو أخذنا في الاعتبار ارتفاع احتمالات حدوث ركود خلال العامين التاليين ــ نحو 40 % في الولايات المتحدة على سبيل المثال ــ فإن صانعي السياسات النقدية الذين يعتقدون أن السياسة المالية وحدها كفيلة بإنقاذ الموقف في طريقهم لتلقي صفعة تنبيه عنيفة.

نعم، هذه حقيقة. ففي ظل أسعار فائدة رسمية تقارب الصفر في معظم الاقتصادات المتقدمة (وفوق 2% بالكاد حتى في الولايات المتحدة الأسرع نموا)، يضيق حيز المناورة المتاح للسياسات النقدية حال حدوث ركود، إن لم يصاحبها الكثير من الحلول المبتكرة. وأرى أن الفكرة المثلى هنا تكمن في إيجاد بيئة يمكن فيها استخدام سياسات أسعار الفائدة السلبية على نحو أكمل وأكثر فعالية. وسيحدث هذا لا محالة في النهاية، لكن ما يحدث اليوم من اعتماد مبالغ فيه على السياسات المالية المقاومة للتقلبات الدورية يعتبر في الوقت ذاته ضربا من السذاجة التي تنذر بمخاطر.

هناك تباينات مؤسساتية هائلة بين البنوك المركزية التكنوقراطية والهيئات التشريعية المضطربة سياسيا التي تتحكم في الإنفاق والسياسة الضريبية. ولنضع في اعتبارنا أن أي ركود نمطي يحدث في أي اقتصاد متقدم لا يستمر لأكثر من عام أو نحوه، بينما يستغرق استنان أي سياسية مالية عادة عدة أشهر على الأقل، حتى في أفضل الظروف.
في بعض الاقتصادات الصغيرة، كالدنمارك مثلا (التي يبلغ عدد سكانها 5.8 مليون نسمة)، يوجد إجماع واسع داخل المجتمع على زيادة الإنفاق المالي كجزء من الناتج المحلي الإجمالي. وقد يُعجَّل ببعض هذا الإنفاق بشكل سلس وسهل حال حدوث ركود. لكن مثل هذا الاتفاق لا وجود له في دول أخرى كثيرة، لا سيما الولايات المتحدة وألمانيا. وحتى لو أراد التقدميون والمحافظون توسيع الحكومة، فستكون أولوياتهم متباينة على نطاق واسع. ففي الولايات المتحدة، قد يفضل الديمقراطيون برامج اجتماعية جديدة لتقليص التفاوت (في الدخول)، بينما قد يميل الجمهوريون لزيادة الإنفاق على الدفاع أو حماية الحدود. وكل من شاهد جلسات استماع مجلس الشيوخ في سبتمبر الفائت للتصديق على عضوية القاضي بريت كافانو كعضو بالمحكمة العليا لا يمكن أن يصدق عن يقين أن هذه المجموعة قادرة على الخروج بسياسة مالية تكنوقراطية منقحة ومضبوطة.
ولا يعني هذا أنه ينبغي استبعاد التحفيز المالي في الركود التالي، لكنه يعني بالتأكيد أنه لا يمكن أن يكون التحفيز خط الدفاع الأول، كما يأمل كثيرون من مسؤولي البنوك المركزية. تمتلك أغلبية الدول المتقدمة تراكما هائلا ومعلقا من مشروعات التعليم والبنية التحتية عالية المردود، وإن كان معظمها سيستغرق وقتا طويلا في التخطيط والتنفيذ. فإذا كان الاقتصاديون الذين ينزعون لليسار يرون أن السياسية المالية هي المخرج الرئيس من أي ركود يحدث في 2019 أو 2020، فينبغي لهم أن يمارسوا الضغط على الحكومة لإعداد حزمة من المشروعات المهيأة للتوافق مع ظروف الكساد. كان الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما يريد إنشاء بنك للبنية الأساسية لهذا الغرض جزئيا، لكن الفكرة لم تخرج إلى النور في واقع الأمر.
بالمثل يدعو كثير من المراقبين لتقوية «عوامل تثبيت الاستقرار التلقائية» مثل إعانات الباحثين عن عمل. إذ يلاحظ أن أوروبا، التي ترتفع فيها كثيرا مستويات التأمين الاجتماعي والضرائب، تحظى في المقابل بعوامل تلقائية لتثبيت الاستقرار أقوى من تلك في الولايات المتحدة أو اليابان. فعندما تنخفض الدخول، تهبط العوائد الضريبية وترتفع مدفوعات التأمين، مما يوفر تحفيزا ماليا ذاتيا لمواجهة التقلبات الدورية. لكن مؤيدي رفع عوامل تثبيت الاستقرار التلقائية يغفلون عن الآثار التحفيزية السلبية التي تأتي مع زيادة الإنفاق الحكومي والضرائب المطلوبة لتوفيره.
ولكي أكون واضحا، فإنني أميل إلى رفع الضرائب ورسوم نقل الملكية في الولايات المتحدة بنسبة معتبرة لمعالجة التفاوت المتنامي. لكن لو كان هناك إجماع سياسي واسع يفضل المضي قدما في هذا الاتجاه، لكانت هذه الزيادة قد تحققت بالفعل.
تتمثل فكرة أكثر ابتكارا في إنشاء مجلس مالي مستقل يكون مختصا بإصدار التوقعات والتوصيات الاقتصادية بشأن الحجم الكلي للميزانيات وأوجه العجز بها. وتقوم الفكرة هنا على إنشاء مؤسسة للسياسات المالية الحكومية يكون دورها موازيا لدور البنك المركزي في وضع السياسات النقدية. ولقد تبنت دول عديدة، منها السويد وبريطانيا، نسخا مخففة بدرجة كبيرة من هذه الفكرة. وتكمن المشكلة في رفض الهيئات التشريعية المنتخبة التنازل عن سلطاتها، لا سيما فيما يتعلق بالضرائب والإنفاق.
قد يتفهم المرء الأسباب وراء رغبة مسؤولي البنوك المركزية في تجنب أي تحايلات أو تلاعبات تأتي من خلال بعض السياسات النقدية المقترحة الأكثر جنونا وغرابة مثل «أموال الهليكوبتر» (التوزيع العشوائي للمال المجاني بين المستهلكين في محاولة لتحفيز زيادة الإنفاق وبالتالي زيادة التضخم)، أو الأموال الهابطة من طائرة بدون طيار (الموجهة بشكل أكثر دقة)، والتي بموجبها يطبع البنك المركزي العملة ويوزعها على الشعب. لا شك أن مثل هذه السياسة تعتبر سياسة مالية متنكرة، ويوم أن يشرع أي بنك مركزي في تطبيقها بجدية، سيفقد أي مظهر للاستقلالية. وقد طالب آخرون برفع أهداف التضخم، لكن هذا يثير عددا كبيرا من المشكلات، لا سيما وأن مثل هذا الإجراء يقوض عقودا من جهود البنوك المركزية لإرساء مصداقية التضخم الذي لا تتجاوز نسبته اثنين بالمئة.
إذا لم تكن السياسة المالية الجواب الرئيس على التساؤلات بشأن ما يمكن اتخاذه من تدابير للتعامل مع الركود التالي، فماذا يكون إذا؟ ينبغي لمسؤولي البنوك المركزية الجادين في الاستعداد لأي ركود في المستقبل أن ينظروا باهتمام شديد في مقترحات لكيفية سداد الفائدة على الأموال، سواء كانت إيجابية أو سلبية، وهو ما يعتبر أمثل الحلول إلى حد بعيد. لقد حان الوقت لشحذ كل ما في صندوق أدوات البنك المركزي من معدات، فالاعتماد الزائد على السياسات المالية العامة المقاومة للتقلبات الدورية لن يؤدي في هذا القرن إلى نتائج أفضل من تلك التي حققها في القرن الفائت.

رئيس الخبراء الاقتصاديين سابقا لدى صندوق

النقد الدولي، ويشغل حاليا منصب أستاذ العلوم
الاقتصاد والسياسة العامة في جامعة هارفارد