الشاب العماني والخليفة هارون الرشيد في حكايات ألف ليلة وليلة

بلادنا الأحد ١٣/يناير/٢٠١٩ ١١:٤٨ ص
الشاب العماني والخليفة هارون الرشيد في حكايات ألف ليلة وليلة

إعداد: نصر البوسعيدي
عُمان كانت ولا زالت موطن الحكايات المدهشة التي كانت تلهم الكثير من الأدباء، لأسباب عديدة منها موقعها الاستراتيجي وتميز أهلها في القيادة والتجارة ومختلف العلوم عبر تاريخها التليد الضارب في جذور التاريخ منذ آلاف السنين.

لذلك وجد الأدباء والجغرافيون والنسابة والرحالة القدامى العرب وغيرهم الكثير من المواضيع التي شغلتهم وشغلت كتاباتهم عن عمان منذ عصر الجاهلية، فتارة من يتحدث عن بعدها، وتارة من يتحدث عن كرم أهلها، وتارة من يتحدث عن مجوهراتها، ولؤلؤها، وتارة من يضع سيرة رجالها في قصص ألف ليلة وليلة أو الليالي العربية التي انتشرت بشكل ملحوظ بين العرب وخاصة في عهد الدولة العباسية ويتم تداولها في مجالس الملوك الأدباء والأعيان وتناقلتها كتب التاريخ في مختلف العصور والأزمنة.

لقد كان العرب يتناقلون فيما بينهم وفي حكايات ألف ليلة وليلة سيرة الشاب العماني مع الخليفة العباسي هارون الرشيد الذي في واقع الحال انهزمت جيوشه أمام الجيش العماني حينما حاول احتلال البلاد في عهد الإمام الوارث بن كعب الخروصي.
ولنعد لقصتنا في ألف ليلة وليلة ولننظر كيف أن عُمان حاضرة في الأدب العربي كمثال، وكيف هي النظرة السائدة لملامح الشاب العماني عند العرب القدامى، وسأسردها لكم هنا (بتصرف لغرض الاختصار) وهي كالتالي:
يحكى أن الخليفة هارون الرشيد كان أرق ذات ليلة أرقا شديدا، فاستدعى جعفر وقال له: يا جعفر قد اعتراني في هذه الليلة أرق فمنع عني النوم ولا أعلم ما يزيله عني؟!
فقال جعفر: يا أمير المؤمنين هل لك أن تنزل بنا في زورق وننحدر به في بحر دجلة مع الماء إلى محل يسمى قرن الصراط لعلنا نسمع أو ننظر ما لم ننظر فإنه قد قبل تفريج الهم بواحد من ثلاثة أمور: أن يرى الإنسان ما لم يكن رآه، أو يسمع ما لم يكن سمعه، أو يطأ أرضا ما لم يكن وطأها، فلعل ذلك يكون سببا في زوال القلق عنك يا أمير المؤمنين، فعند ذلك قام الرشيد من موضعه وصحبه جعفر وأخوه الفضل وأبو اسحق النديم وأبو نواس وأبو دلف ومسرور والصياد، ولبسوا كلهم ملابس التجار وتوجهوا إلى دجلة ونزلوا في زورق مزركش بالذهب وانحدروا مع الماء حتى وصلوا إلى الموضع الذي يريدونه فسمعوا أصوات جارية تغني على العود وتنشد هذه الأبيات:
زرعت بخده وردا طريا فأثمر في السوالف جلنار
وتحسب موضع التخميس فيه رمادا خامدا والخد نار
فلما سمع الخليفة هذا الصوت قال: يا جعفر ما أحسن هذا الصوت
فقال جعفر: ما طرق سمعي أطيب من هذا الغناء، ولكن يا سيدي إن السماع من وراء جدار نصف سماع، فكيف بالسماع من خلف ستر؟!
فقال الخليفة: انهض بنا يا جعفر حتى نتطفل على صاحب هذه الدار لعلنا نرى المغنية عيانا.
فاستأذنوا في الدخول وإذا بشاب عماني مليح المنظر، عذب الكلام، فصيح اللسان، خرج إليهم وقال:
أهلا وسهلا يا سادتي المنعمين عليه، ادخلوا بالرحب والسعة، فدخلوا فرأوا الدار أربعة أوجه وسقفها بالذهب وحيطانها منقوشة باللازورد وفيها إيوان به سدنة جميلة وعليها مئة جارية كأنهن أقمار.
ثم قال الشاب العماني لجعفر: يا سيدي أنا لا أعرف منكم الجليل من الأجل، ليتفضل منكم من هو أعلى في الصدر ويُجلس إخوانه كل واحد في مرتبته، فجلس كل واحد في منزلته.
ثم قال لهم: هل أحضر لكم شيئا من المأكول؟! فقالوا: نعم، فأمر الجواري بإحضار الطعام فأقبلت أربع جوار بين أيديهن مائدة وعليها من غرائب الألوان مما درج وطار وسبح في البحار من قطا وسماني وأفراخ وحمام، فأكلوا على قدر كفايتهم.
فقال الشاب: يا سادتي إن كان لكم حاجة فأخبرونا بها حتى نتشرف بقضائها؟!
فقالوا: نعم إننا ما جئنا منزلك إلا لأجل صوت سمعناه من وراء حائط دارك، فاشتهينا أن نسمعه ونعرف صاحبته فإن رأيت أن تنعم علينا بذلك كان من مكارم أخلاقك.
فقال: مرحبا بكم، ثم التفت إلى جاريته فقال لها: أحضري سيدتك فلانة، فأتت جارية كأنها البدر في تمامه فجلست على الكرسي، وأخرجت منها عودا مرصعا بالجواهر، فشدت أوتاره لرنات المزاهر، ثم ضمت العود لصدرها وانحنت عليه انحناء الوالدة على ولدها وجست أوتاره فاستغاث كما يستغيث الصبي بأمه ثم أنشدت هذه الأبيات:
جاد الزمان بمن أحب فاعتبا يا صاحبي فأدر كؤوسك واشربا
من خمرة ما مازجت قلب امرئ إلا وأصبح بالمسرة مطربا
قام النسيم بحملها في كأسها أرأيت بدر التم يحمل كوكبا
كم ليلة سامرت فيها بدرها من فوق دجلة قد أضاء الغيهبا
فلما فرغت من شعرها بكت بكاء شديدا وصاح كل من في الدار، فقال هارون الرشيد: إن غناء هذه الجارية يدل على أنها عاشقة مفارقة.
فقال الشاب: إنها ثاكلة لأمها وأبيها، فقال الرشيد: ما هذا بكاء من فقد أباه وأمه وإنما هو شجو من فقد محبوبه.
وكان هارون الرشيد مع ذلك كله ينظر إلى صاحب الدار ويتأمل محاسنه وظرف شمائله فرأى في وجهه اصفرارا فالتفت إليه وقال: يا فتى هل تعلم من نحن؟! فقال: لا، فقال له جعفر: هذا أمير المؤمنين وابن عم سيد المرسلين هارون الرشيد.
وبعد ذلك قال الخليفة للعماني: أشتهي أن تخبرني عن هذا الاصفرار الذي في وجهك هل هو مكتسب أو أصلي من حين ولادتك؟!
قال الشاب: اعلم يا أمير المؤمنين أني رجل تاجر من تجار البحر وأصلي من (عُمان)، وكان أبي تاجرا كثير المال، وكان له ثلاثون مركبا تعمل في البحر أُجرتها في كل عام ثلاثون ألف دينار، وكان أبي رجلا كريما، فلما حضرته الوفاة دعاني وأوصاني بما جرت به العادة ثم توفاه الله إلى رحمته، وكنت في يوم من الأيام قاعدا في منزلي إذ دخل علي غلام من غلماني وقال: يا سيدي إن بالباب رجلا يطلب الأذن في الدخول، فأذنت له ودخل ووضع بين يدي فواكه بغير أوان وملحا وطرائف ليست في بلادنا فشكرته على ذلك وأعطيته مئة دينار، ثم سألت التجار من أين هذا؟! فقالوا: إنه من البصرة، فصاروا يصفون حسن البصرة وأجمعوا على أنه ليس في البلاد أحسن من مدينة بغداد ومن أهلها، فاشتاقت نفسي إليها وتعلقت آمالي برؤيتها فقمت وبعت العقار والأملاك وبعت المراكب بمئة ألف دينار واكتريت مركبا وشحنتها بأموالي وسائر متاعي وسافرت بها أياما وليالي حتى جئت البصرة فأقمت بها مدة ثم سرنا منحدرين أياما قلائل حتى وصلنا بغداد فسألت أين تسكن التجار وأي موضع أطيب للسكان، فقالوا: في حارة الكرخ فجئت بها واستأجرت دارا في درب يسمى درب الزعفران.
ثم توجهت في بعض الأيام ومعي شيء من المال إلى موضع يسمى قرن الصراط فرأيت في ذلك المكان موضعا عاليا جميلا مطلا على الشاطئ، فرأيت شيخا جالسا وعليه ثياب جميلة وتفوح منه رائحة طيبة وحوله الجواري والغلمان فقلت لشخص ما اسم هذا الشيخ فقال: هذا طاهر ابن العلاء وهو صاحب الفتيان والجواري وكل من دخل عنده يأكل ويشرب وينظر إلى الملاح.
ثم تقدمت إليه يا أمير المؤمنين وسلمت عليه، وقلت له يا سيدي إن لي عندك حاجة فقال ما حاجتك؟!
قلت: أشتهي أن أكون ضيفك، فوزنت له ثلاثمئة دينار عن شهر من أجل إحدى الجواري فتلقتني بالرحب والسعة ضاحكة مستبشرة وأدخلتني دارا عجيبة مزركشة بالذهب فتأملت في تلك الجارية فرأيتها كالبدر ليلة تمامه وفي خدمتها جاريتان كأنهما كوكبان ثم أجلستني وجلست بجانبي فأتين بمائدة فيها من أنواع اللحوم والحلوى والفواكه وأقمت عندها شهرا على هذا الحال وهي تغني
أيا نفحات المسك من أرض بابل بحق غرامي أن تؤدي رسائلي
عهدت بهاتيك الأراضي منازلَ لأحبائنا أكرم بها من منازل
وفيها التي ما حبها كل عاشق تغني ولم يرتد منها بطائل
وفي مساء ذات يوم سمعت ضجة عظيمة فقلت لطاهر ابن العلاء: ما الخبر؟ فقال: إن هذه الليلة عندنا أشهر الليالي وجميع الخلائق يتفرجون فهل لك أن تصعد للسطح وتتفرج على الناس؟ فقلت: نعم وطلعت على السطح فرأيت ستارة حسنة وصبية تدهش الناظرين حسنا وجمالا فلما رأيتها يا أمير المؤمنين لم أملك نفسي ولم أعرف أين أنا لما بهرني من حسن صورتها، فقالت لي الجارية التي أنا عندها: هذه ابنة طاهر بن العلاء وهي سيدتنا وكلنا جواريها. فقلت: والله لأذهبن مالي كله على هذه الجارية وبت أكابد الغرام طول ليلي، فلما أصبحت لبست أفخر ملبوس من ملابس الملوك وجئت لأبيها وقلت له أريد تلك الجارية، فقال لي: زن الذهب، فوزنت له عن كل شهر عشرة آلاف درهم، وبعدها أخذوني إليها فلما رأيت الصبية اندهش عقلي بحسنها يا أمير المؤمنين وهي كالبدر في ليلة أربعة عشر ذات حسن وجمال وألفاظ تفضح رنات المزاهر، ومن فرط الاشتياق بكيت حماقة الفراق وأسبلت دمع العين قائلا:

أحب ليالي الهجر لا فرحا بها عسى الدهر يأتي بعدها بوصال

وأكره أيام الوصال لأنني أرى كل شيء معقبا بزوال
ثم إنها صارت تؤانسني بلطف وأنا غريق في بحر الغرام خائف في القرب ألم الفراق من فرط الوجد والاشتياق، وتذكرت لوعة النوى والبين فأنشدت:
فكرت ساعة وصلها في هجرها فجرت مدامع مقلتي كالعندم
فطفقت أمسح مقلتي في جيدها من عادة الكافور إمساك الدم
وأقمت عندها يا أمير المؤمنين مدة من الزمان حتى نفد جميع مالي فتذكرت مفارقتها وبكيت، فقالت: لأي شيء تبكي؟ فقلت لها: يا سيدتي من حين جئت إليك وطاهر ابن العلاء يأخذ مني في كل ليلة خمسمئة دينار وما بقي عندي شيء من المال وقد صدق قول الشاعر حينما قال:
الفقر في أوطاننا غربة والمال في الغربة أوطانُ
فقالت لي: اكتم سرك واخف أمرك وأنا أعمل حيلة في اجتماعي بك إلى ما شاء الله فإن لك في قلبي محبة عظيمة وأعلم أن مال أبي تحت يدي وهو لا يعرف قدره وأنا أعطيك في كل يوم كيسا فيه خمسمئة دينار وأنت تعطيه لأبي وتستمر هكذا إلى أن يشاء الله، فشكرتها على ذلك وقبلت يدها.
ثم أقمت عندها يا أمير المؤمنين على هذا الحال مدة سنة كاملة، فاتفق في بعض الأيام أنها ضربت جاريتها ضربا وجيعا، فقالت لها: والله لأوجعن قلبك كما أوجعتني ثم مضت تلك الجارية إلى أبيها وأعلمته بأمرنا، فلما سمع قام من وقته ودخل علي وقال: من عادتنا أنه إذا كان عندنا تاجر وافتقر أننا نضيفه عندنا ثلاثة أيام وأنت على هذا الحال عندنا سنة تأكل وتشرب.
ثم التفت إلى غلمانه وقال: اخلعوا ثيابه ففعلوا وأعطوني ثيابا رديئة قيمتها خمسة دراهم ودفعوا إلي عشرة دراهم، وقال لي: اخرج فأنا لا أضربك ولا أشتمك وأذهب إلى حال سبيلك، وإن أقمت في هذه البلدة كان دمك هدرا، فخرجت يا أمير المؤمنين رغم أنفي ولا أعلم أين أذهب، وحل بقلبي كل هم الدنيا وقلت في نفسي كيف أجيء إلى البحر بألف ألف من جملتها ثمن ثلاثين مركبا ويذهب هذا كله في دار هذا الشيخ النحس واخرج من عنده عريانا مكسور القلب؟!
ثم أقمت في بغداد ثلاثة أيام لم أذق طعاما وشرابا، وفي اليوم الرابع رأيت سفينة متوجهة للبصرة فنزلت معهم إلى البصرة ودخلت السوق وأنا في شدة الجوع فرآني بقال كان صاحبا لي ولأبي فعانقني وسألني عن حالي فأخبرته بما جرى، فقال: والله ما فعال عاقل ومع هذا أتجلس عندي وتكتب خرجي ودخلي ولك في كل يوم درهم زيادة على أكلك وشربك؟! فأجبته وأقمت عنده يا أمير المؤمنين سنة كاملة إلى أن صار معي مئة دينار فاستأجرت غرفة على شاطئ البحر لعل مركبا يأتي ببضاعة فأشتري بالدنانير بضاعة وأتوجه لبيعها في بغداد، وفي بعض الأيام جاءت المراكب وتوجهت إليها وإذا برجلين قد خرجا من بطن المركب ونصبا لهما كرسيين ثم أقبل التجار عليها لأجل الشراء وجاء واحد منهم بخرج به جراب وفتحه وكبه على البساط وإذا به يخطف البصر لما فيه من الجواهر واللؤلؤ والمرجان والعتيق من سائر الألوان.
فتزايدت التجار في الثمن حتى بلغ مقداره أربعمئة دينار فقال لي صاحب الجراب وكان بينه وبيني معرفة قديمة لماذا لا تتكلم مثل التجار؟ فقلت له: والله ما بقى عندي شيء من الدنيا سوى مئة دينار واستحيت منه ودمعت عيناي فنظر إلي وقد عسر عليه حالي وقال للتجار: اشهدوا علي أني قد بعت جميع ما في الجراب من أنواع الجواهر والمعادن لهذا الرجل بمئة دينار وهو هدية مني إليه، فشكرته على ذلك وأخذت البضاعة ومضيت بها إلى سوق الجواهر وقعدت أبيع وأشتري وكان من بين الجواهر قرص تعويذ صنعه المعلمون وكان شديد الحمرة وعليه أسطر مثل دبيب النمل ولم أعرف منفعته، فبعت واشتريت مدة سنة كاملة، وقرص التعويذ له عندي مدة لا أعرفه ولا أعرف منفعته ولم يدفع لشرائه إلا أحد التجار بعشرة دراهم فقلت له ما أبيعه بهذا القدر.
وبينما أنا جالس في يوم من الأيام أقبل علي رجل فسلم وقال: هل أقلب ما عندك من البضاعة، فقلت نعم وأنا مغتاظ من كساد قرص التعويذ، فلما رآه الرجل قبل يده وقال لي: يا سيدي أتبيع هذه وكم ثمنه؟! فقلت له: كم تدفع فيه أنت؟! قال: عشرين دينارا فلم أخاطبه فقال: أبخمسين دينارا فلم أجبه ظنا أنه يستهزئ بي وظل على هذا الحال وهو يزيد ألفا بعد ألف حتى قال: أتبيعه بعشرين ألف دينار؟ فقلت له: هل أنت تشتري أو تستهزئ؟ فقال بثلاثين ألف دينار.. خذها وأمضِ البيع وأنا أخبرك بعدها بفائدته ونفعه، فقلت له: بعتك، ثم أخرج الذهب وأقبضني إياه وأخذ قرص التعويذ ووضعه في جيبه ثم قال: هل رضيت؟ فقلت: نعم، فقال للناس اشهدوا عليه أنه أمضى البيع وقبض الثمن.
ثم التفت إلي وقال يا مسكين والله لو أخرت البيع لزدناك إلى مئة ألف دينار بل إلى مئة ألف ألف دينار، فلما سمعت هذا الكلام يا أمير المؤمنين نفر الدم من وجهي وعلا عليه هذا الاصفرار الذي أنت تنظره من ذلك اليوم، ثم قلت له أخبرني ما سبب ذلك وما نفع هذا القرص؟ فقال: اعلم أن ملك الهند له بنت لم يُرَ أحسن منها وبها داء الصداع فأحضر الملك أرباب الأقلام وأهل العلوم والكهان فلم يرفعوا عنها ذلك فقلت للملك وكنت بحضرته: أيها الملك أنا أعرف رجلا يسمى سعد الله البابلي ما على الأرض أعرف منه بهذه الأمور فإن رأيت أن ترسلني إليه، فقال الملك: اذهب إليه، فقلت له: أحضر إلي قطعة كبيرة من العقيق ومعها مئة ألف دينار هدية، فأخذت ذلك وتوجهت إلى بلاد بابل ودفعت للشيخ المئة ألف دينار والهدية، ثم أخذ قطعة العقيق وأحضر حكاكا عمل هذه التعويذة ومكث الشيخ سبعة أشهر يرصد النجم حتى اختار وقتا لكتابته وكتب عليه هذه الطلاسم، فأخذت هذه التعويذة وجئت للملك فلما وضعه على ابنته برئت من ساعتها وهي من كانت مربوطة بسلاسل، ففرح الملك فرحا شديدا وتصدق بمال كثير ثم وضعه في عقدها، ويوما ما نزلت في مركب هي وجواريها تتنزه في البحر فمدت جارية يدها لتلاعبها فانقطع العقد وسقط في البحر فعاد إليها المرض فحصل ما حصل للملك من الحزن فأعطاني مالا كثيرا وقال لي اذهب إلى الشيخ ليعمل لها تعويذة عوضا عنها فسافرت إليه فوجدته ميتا فأخبرت الملك بذلك فبعثني أنا وعشرة أنفس نطوف في البلاد لعلنا نجد لها الدواء فوجدت هذه التعويذة عندك.
فأخذه مني يا أمير المؤمنين وانصرف فكان ذلك الأمر سببا للاصفرار الذي في وجهي، ثم أني توجهت إلى بغداد ومعي جميع مالي، وجئت إلى بيت طاهر بن العلاء لعلي أرى من أحبها فإن حبها لم يزل يتزايد في قلبي فلما وصلت إلى داره رأيته قد انهدم فسألت غلاما ما الذي حدث لابن العلاء فقال: يا أخي إنه قدم عليه في سنة من السنين رجل تاجر يقال له أبو الحسن العماني فأقام مع ابنته مدة من الزمن ثم بعد أن ذهب ماله أخرجه من عنده مكسور الخاطر، وكانت الصبية تحبه حبا شديدا فلما فارقها مرضت مرضا شديدا حتى بلغت الموت فباع أبوها كل الجواري وأرسل خلفه في البلاد وقد ضمن لمن يأتي به مئة ألف دينار فلم يره أحد وهي الآن مشرفة على الموت، فقلت له اذهب إليه واخبره أن أبا الحسن العماني واقف على الباب، فانطلق الرجل يهرول حتى جاء بطاهر ابن العلاء الذي عانقني وبكى وقال: يا سيدي أين كنت في هذه الغيبة هلكت ابنتي من أجل فراقك أدخل معي للمنزل، فلما دخلت سجد شكرا لله، ودخل على ابنته وقال لها: شفاك الله من هذا المرض، فقالت: يا أبت ما أبرا من مرضي إلا إذا نظرت وجه أبي الحسن، فقال إذا أكلت أكلة جمعت بينكما فلما سمعت كلامه قالت أصحيح ما تقول قال لها نعم، فقالت والله إن نظرت إلى وجهه ما أحتاج إلى أكل، فقال لغلامه أحضر سيدك، فلما دخلت نظرت إلي يا أمير المؤمنين فوقعت مغشيا عليها فلما أفاقت أنشدت:
وقد يجمع الله الشتيتين بعدما يظنان كل الظن أن لا تلاقيا
ثم استوت جالسة وقالت: يا سيدي ما كنت أظن أني أرى وجهك إلا إن كان مناما، ثم إنها عانقتني وبكت، ثم صرت عندهم يا أمير المؤمنين مدة من الزمن وعادت كما كانت عليه من الجمال، وهي الآن زوجتي.
بعد أن أسرد العماني حكايته لهارون الرشيد، انصرف الخليفة هو وجماعته مودعا الشاب، وحينما جلس في دار الخلافة قال: يا مسرور اجمع في هذا الديوان خراج البصرة وخراج بغداد وخراج خراسان فجمعوه وأمرهم أن يضعوه خلف ستارة فجمعوه وكان مالا عظيما، ثم قال لجعفر أحضر لي أبا الحسن العماني، فلما حضر قال له الرشيد: يا عماني، قال لبيك يا أمير المؤمنين، فقال له اكشف هذه الستارة عن الإيوان، فلما كشف الستارة اندهش عقله من كثرة المال، فقال الخليفة هارون الرشيد: يا أبا الحسن أهذا المال أكثر أم الذي فاتك من قرص التعويذة، فقال بل هذا يا أمير المؤمنين، فقال الرشيد: اشهدوا يا من حضر أني وهبت هذا المال لهذا الشاب، فقبل الأرض واستحى وبكى من شدة الفرح بين يدي الرشيد، فرجع الدم إلى محله فصار وجهه كالبدر ليلة تمامه، ثم أمر الخليفة أن يحمل إليه المال وسأله أن لا ينقطع عنه من أجل المنادمة فصار يتردد إليه إلى أن توفي رحمه الله».

المرجع: موسوعة عُمان في التراث العربي في عيون الأدباء ج1، د.هلال الحجري، الطبعة الأولى 2018م، الناشر: وزارة الإعلام سلطنة عُمان، بيت الغشام للصحافة والنشر والإعلان، سلطنة عُمان - مسقط.