اتفاق مثير للجدل

مقالات رأي و تحليلات الخميس ٠٣/يناير/٢٠١٩ ١٢:١٦ م
اتفاق مثير للجدل

جونزي زنغ

تنتشر خيوط الشفق الأولى في سماء نزران الملبدة بغيوم تتفرق وتلتئم كقطعان أغنام. نزران هي المدينة الكبرى في جمهورية إنغوشيا ذات الأغلبية المسلمة. دخل تيمور لتوه إلى البيت قادما من العمل ويبدو في عجلة من أمره إذ هو يستعد للخروج مرة أخرى. عرج على المطبخ ليبتلع كعكا وشايا أسود على الواقف: “هل نذهب؟ هل أنت جاهزة”، خاطب والدته غالينا، وهي روسية اعتنقت الإسلام بعد زواجها من والد تيمور الإنغوشي. وتجيبه أمه وهي تسوي بسرعة وشاحا على رأسها: “علينا المرور لاصطحاب زارا. ستأتي معنا”.

الوجهة: “ماغاس”، عاصمة جمهورية إنغوشيا، الموجودة على بعد 11 كلم جنوب شرق نزران. في ساعة الذروة هذه من النهار، يبدو جليا أن هناك، وعلى عكس العادة، عدد من السيارات الداخلة إلى ماغاس أكثر من تلك الخارجة منها. يشرح تيمور بابتسامة ارتسمت على شفتيه: “الكل يذهب إلى التجمع”. لا يُفوِّت موظف البنك هذا، 41 سنة، أي تجمع مسائي منذ أن اجتاحت العاصمة الإنغوشية في 4 أكتوبر موجة الاحتجاجات ضد ترسيم الحدود المثير للجدل مع الجمهورية الشيشانية المجاورة.

بدأت الحكاية يوم 26 سبتمبر 2018 حيث وقّع قائد أنغوشيا، يونس بك إيفكيروف، مع مثيله الشيشاني رمضان قاديروف، على اتفاق يحدد الحدود الإدارية بين الجمهوريتين. وقد تم ذلك تحت إشراف ألكسندر ماتوف نيكوف موفد الرئيس فلاديمير بوتن إلى شمال القوقاز. وفي يوم 4 أكتوبر تمت المصادقة على الاتفاق في البرلمانين. ونزل على إثر ذلك سكان إنغوشيا بكثافة إلى شوارع ماغاس حيث اكتشف كثير منهم في ذلك اليوم أن جمهوريتهم ـ وهي الأصغر ضمن فيدرالية روسيا (3628 كلم2) ـ ستفقد 10 % من الأراضي التي تتحكم فيها فعليا.
يركن تيمور سيارته بالقرب من مقر التلفزيون الإقليمي حيث يحتشد المئات من الأشخاص: رجال، نساء، شيوخ وأطفال. يجلس القدماء و“الباباخا”1 على الرأس، على كراسي ومقاعد وضعت في الصفوف الأولى. يقف خلفهم شباب ينصتون بوقار إلى النشطاء الذين يتداولون الكلمة بين الحشد. وعلى الجانب الآخر خصصت مساحة للنساء فقط، تفصلهن عن أزواجهن أو آبائهن أو إخوانهن أو أبنائهن. وغير بعيد عن التجمع يتكئ رجال مفتولو العضلات من الحرس الوطني الروسي على عربات مصفحة وهم يلقون بين حين وآخر على المارة نظرة تمتزج فيها القسوة باللطف.
تقول خديجة، 55 سنة، وهي متظاهرة من نزران: “أراضينا ليست ملك إيفكيروف! هي ملك لشعب إنغوشيا، كيف تجرّأ أن يقرر دون استشارة الشعب بالتنازل عن أراضينا إلى تشيشينيا التي تكبر جمهوريتنا بخمس مرات؟! ليس له أي حق في القيام بذلك!” وتضيف خديجة: “للعلم ليست لي أية ضغينة ضد الشعب الشيشاني الذي هو شعب شقيق ـ ولكن عندما يتزوج الإخوة فهم يعيشون منفصلين، كل في ملكيته.”
تعود الإستعارة المستعملة من طرف خديجة إلى التاريخ المشترك الانغوشي- الشيشاني. ففي أيام الحكم السوفييتي كانت الجمهوريتان جمهورية واحدة تحت تسمية “جمهورية تشيشينيا ـ إنغوشيا الإشتراكية السوفييتية المستقلة ذاتيا”. وعند انهيار الاتحاد السوفييتي قامت تشيشينيا بإعلان الإستقلال من جانب واحد في حين اختارت إنغوشيا، عبر استفتاء، البقاء تحت المظلة الروسية. وفي سنة 1992 صادقت الدولة الروسية على إنشاء جمهورية إنغوشيا تاركة رسم الحدود بين إنغوشيا وتشيشينيا معلقا.
تقول فاطمة، 23 سنة، وهي تحمل على ذراعها رضيعا، بأنها أتت مع عائلتها إلى ماغاس مع بداية الاحتجاج في ثلاث سيارات. ومنذ ذلك الحين وهم يخيمون ليل نهار في أماكن المظاهرات مثل الكثير غيرهم.
عائلتها من مقاطعة /سونجنسكي/ (إنغوشيا) التي سيُضَم جزء منها إلى الشيشان وفقا للاتفاق الأخير لترسيم الحدود بين الجمهوريتين. وتقول السيدة الشابة بإصرار: “هناك أرض أجدادنا، جذورنا، المقبرة وبرج”طيبنا“(عشيرتنا) يوجدان هناك. والآن كل ذلك سيصبح شيشانيا؟! لقد قام إيفكيوروف ببيع وطننا لقاديروف! لن نقبل بذلك، ولن نسكت أبدا عن خيانة كهذه!”
لا يوجد مقيمون دائمون في جزء مقاطعة سونجنسكي التي تم التنازل عنها لتشيشينيا. فقد هرب آخر المتبقين من المكان خلال السنوات الأخيرة بسبب عدة عمليات قامت بها السلطات ضد الإرهابيين. وراجت مؤخرا شائعات تفيد بأن تكون هذه المنطقة الجبلية المتاخمة لتشيشينيا موطن رواسب نفطية غير نشطة، وهو أمر يبقى إلى حد الآن بدون تأكيد.
ولكن سواءً أكان هناك بترول أم لا، يظهر الإنغوش حساسية كبرى فيما يخص مسألة الأراضي. يتنهد تيمور ويستشهد بمثل قوقازي قديم: “من يفقد الجبال يفقد السهول”.
وبالفعل فقد نالت الجمهورية الصغيرة نصيبها من الويلات في ماض غير بعيد. فعلى إثر اتهام ستالين لهم بالتعاون مع النازيين تم ترحيل كل الإنغوش والشيشان إلى آسيا الوسطى سنة 1944. ولزم انتظار 13 سنة منذ ذلك الحين، حتى سنة 1957 ليقوم القائد الجديد للاتحاد السوفياتي، نيكيتا خروتشوف/ بإعادة الاعتبار لهم والسماح لهم بالعودة. ولكن على خلاف الشيشان الذين استرجعوا أراضيهم كاملة، وجد الإنغوش أرضهم مبتورة من مقاطعة “بريغورودني” وهي منطقة تم ضمها بقرار من ستالين إلى أوسيتيا الشمالية، الجمهورية المجاورة ذات الأغلبية المسيحية. وقد نشبت عن ذلك عداوة بين الإنغوش والأوسيتيين إلى درجة اندلاع نزاع دموي في منطقة بريغورودني في سنة 1992. وقد لقي خلالها 600 شخص حتفهم كما تم طرد 40 ألف إنغوشي. للتذكير فإن قائد إنغوشيا يونس بك إيفكيوروف، 55 سنة، وهو من المحاربين القدامى في الجيش، حاصل على وسام “بطل روسيا” مقابل أعماله بالكوسوفو، كان يطمح إلى عهدة ثالثة في سبتمبر 2018. ويونس بك إيفكيوروف في الحكم منذ 10 سنوات إلا أنه أبعد ما يكون عن الزعيم الشعبي.
بالنسبة لبارا بارتشييفا، مناضلة إنغوشية في الثمانين من العمر، فإن الاتفاق يعود إلى مكيدة سياسية: “عرف قاديروف كيف يستغل ضعف إيفكيوروف ليطالب عند بوتين بهذه الأراضي التي يطمع فيها. إذ لا بد هنا، في شمال القوقاز من دعم الكرملين قبل أي شيء آخر للحصول على عهدة ثالثة للحاكم. إنني مقتنعة بأن إيفكيوروف قايض عهدته الجديدة بالأراضي”.
نجد نفس النغمة لدى السيدة سوكيريانسكايا التي تشير إلى السبب الذي يجعل كل طلبات القائد الشيشاني تجد أذناً صاغية عموماً لدى الكرملين: “لدى قاديروف سلاح تفاوضي كبير: الاستقرار في تشيشينيا. لذا أصبح بوتين مضطرا لإطعام أمراء الحرب المحليين الذين خلقهم بنفسه، ويبقى قاديروف الوحيد القادر على ضمان استمرار الوضع القائم بتشيشينيا”.
وقد حكمت المحكمة الدستورية الإنغوشية في 30 أكتوبر بعدم قانونية الإتفاق حول ترسيم الحدود. وكان ذلك صفعة ليونس بك إيفكيوروف الذي سارع بالاستئناف لدى المحكمة الدستورية لفدرالية روسيا. وقد عقدت المحكمة جلسة أولى في 27 نوفمبر وسيتم النطق بالحكم خلال شهر ديسمبر. وليست لدى المناضلين الإنغوش أوهام في هذا الصدد. هناك عريضة يتم تداولها في الجمهورية من أجل إجراء استفتاء حول الاتفاق. وتؤكد ليفلوييفا: “سنكافح بكل الوسائل لإحقاق الحق. وسننتصر عاجلا أم آجلا”.

صحفية مقرها موسكو، مراسلة صحيفة “لوبنيون” (الرأي) الفرنسية