الإصلاح الاقتصادي يحوّل دول الخليج لملاذ آمن للاستثمارات العالمية

مقالات رأي و تحليلات الاثنين ٣١/ديسمبر/٢٠١٨ ٠٣:٣٦ ص
الإصلاح الاقتصادي يحوّل دول الخليج  لملاذ آمن للاستثمارات العالمية

محمد بن محفوظ العارضي

يرتبط تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر إلى دول مجلس التعاون الخليجي ارتباطاً وثيقاً مع معدلات إنجاز خطط التنوع الاقتصادي وحجم الإنفاق على البنية التحتية بالإضافة إلى تهيئة البنية التشريعية اللازمة لتسهيل ممارسة الأعمال، بحسب ما تظهره القراءة المتأنية للتقارير الدولية والإقليمية في هذا الشأن.

وليس من قبيل المصادفة أن تحصل دول الخليج وحدها على نصف قيمة الاستثمارات الأجنبية المباشرة المتدفقة على الدول العربية مجتمعة في العام 2017، والتي تقدر بنحو 30 بليون دولار، فالدول الست احتلت مراكز متقدمة في تقرير سهولة ممارسة الأعمال لعام 2019 الصادر مؤخراً عن البنك الدولي ويشمل 190 دولة، إذ كانت دولة الإمارات العربية المتحدة البلد العربي الوحيدة ضمن مجموعة العشرين اقتصاداً الأولى عالمياً، وحلت في المركز الحادي عشر، فيما حلت البحرين بالمرتبة 62 عالمياً، بينما حلت السلطنة في المرتبة الثامنة والسبعين عالمياً، وحلت قطر في المرتبة الثالثة والثمانين، ثم المملكة العربية السعودية في المرتبة الثانية والتسعين، والكويت في المرتبة السابعة والتسعين.

وبالتوازي مع ذلك، وتأكيداً للارتباط الواضح بين خطط التنويع الاقتصادي وحجم التدفق الاستثماري الأجنبي، استحوذت دولة الإمارات على 67 % من إجمالي الاستثمارات الأجنبية الواردة إلى دول الخليج في 2017 بقيمة بلغت 10.35 بليون دولار من إجمالي الاستثمارات 15.45 بليون دولار وتلتها سلطنة عمان بنسبة 12.1 %، فيما جاءت السعودية في المرتبة الثالثة بنسبة 9.2 %، وذلك وفقاً لأحدث البيانات المتاحة التي تؤكد أن إجمالي تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر لدول الخليج يمثل 1.1 % من إجمالي تدفق الاستثمار في العالم العام الماضي، فيما بلغ إجمالي الاستثمار الأجنبي للدول العربية مجتمعة 2 % من إجمالي الاستثمارات العالمية.
واللافت أن هذه الاستثمارات الأجنبية تسعى لاقتناص الفرص الجيدة في القطاعات غير النفطية في دول الخليج في ضوء الخطط والرؤى التنموية التي تنفذها هذه الدول للخروج من عباءة النفط وهي: «رؤية السعودية 2030» و»رؤية الإمارات 2021» و»رؤية البحرين الاقتصادية 2030» و»رؤية قطر الوطنية 2030» و»رؤية الكويت 2035» و»رؤية عُمان 2040»، خصوصاً أن هذه الرؤى التي تستهدف إحداث تنمية اقتصادية مستدامة تنطلق من رؤية كبرى تتمثّل في تحويل الاقتصادات الخليجية من حقبة الاعتماد على النفط إلى حقبة اقتصادات متقدمة قائمة على التقنية الفائقة في مرحلة ما بعد النفط، بالارتكاز إلى أُسس متينة وذات استدامة اقتصادية.
والحقيقة أن هذه الرؤى الإصلاحية المعلن عنها حديثاً، سبقتها على مدى العقود الخمسة الماضية، عدداً من المحاولات والخطوات المهمة نحو تنويع اقتصادات دول الخليج بمنأى عن الاعتماد على النفط والغاز، فشيدت البنية التحتية، وأُنشأت المنظومتين التعليمية والصحية، وأرست مجموعة من الصناعات التحويلية الهادفة إلى تلبية المتطلبات المحلية وخدمة السوق الدولية، ومنذ أوائل العقد الأول من هذا القرن، أُجريت إصلاحات اقتصادية مهمّة في معظم دول مجلس التعاون؛ بُغية جعل الاستثمارات في قطاع التصنيع جذابةً للمواطنين والأجانب على حدّ سواء، كما كانت هناك العديد من الجهود المبذولة لإدخال قطاعات أو صناعات أو نشاطات جديدة منطوية على إمكانات نمو عالية، وليس من المستغرب أن يتم اختيار القطاعات ذات النمو المرتفع في الاقتصاد المعولم، ومنها على سبيل المثال الطيران، والسياحة والضيافة، والعقارات، والخدمات اللوجستية، وخدمات الأعمال، والتصنيع، والمنتجات ذات المحتوى التكنولوجي العالي مثل التقنيات الذكية أو الخضراء. ومن أمثلة تلك الاستثمارات الاستثمارُ الهائل في المطارات والطائرات ومرافق خدمات الرحلات الجوية، وتأخذ عملية التنويع الاقتصادي في «رؤية السعودية 2030» بُعداً إضافياً، من خلال استحداث صندوق الاستثمارات العامة الذي سيضطلع بدور المستثمر في الشركات المنتجة في المملكة (50 % استثمارات محلية، و50% استثمارات أجنبية).
وإلى جانب تلك الخطط التنموية، نجد أنّ حكومات بلدان مجلس التعاون تعلن عن «مشروعات عملاقة» وتعمل على تنفيذها، بما يسهم في تحقيق رؤاها التنموية بشكل عام. واثنان من أبرز تلك المشروعات هُما مشروع مدينة «نيوم» في السعودية، ومشروع مدينة الحرير في الكويت، ويهدف المشروع العملاق الأول إلى إنشاء مدينة حديثة تقوم على التقنية الفائقة لتوفير أنماط حياة «حقبة ما بعد الصناعة»، وتم تخصيص أكثر من 500 بليون دولار أمريكي من جانب السعودية، ومن قبل مستثمرين محليين وعالميين. أما مشروع مدينة الحرير فيشمل مدينة متكاملة يقطنها أكثر من 700 ألف نسمة مقرونة بكافة المرافق والفنادق والخدمات اللازمة، ومن المتوقع أن يستحدث المشروع ما مجموعه 450 ألف وظيفة عند اكتماله في عام 2036. ومن المتوقع أن تبلغ تكلفة المشروع 150 بليون دولار أمريكي، وتساهم الصين بشكل لافت في استثمارات هذه المدينة العملاقة.
والمثير للانتباه أن الحكومات الخليجية استفادت من الحقبة النفطية بشكل جيد في تهيئة بنيتها الأساسية ومناخها الاستثماري لمرحلة ما بعد النفط، بل يمكن القول أن الاقتصادات الخليجية أصبحت اليوم في وضع أكثر مرونة للتعامل مع تقلبات أسعار النفط من الماضي، خصوصاً في ظل الإجراءات التحوطية التي جرى اتخاذها منذ الانهيار الكبير في أسعار الخام بداية من العام 2014 ووصوله إلى مستويات الثلاثين دولاراً للبرميل، ولجوء عدد من الدول الخليجية إلى إجراءات وُصفت حينها بالتقشفية، والآن أصبحت الاقتصادات الخليجية أكثر نضجاً وأكثر تنوعاً بفضل الاستراتيجيات المتبعة في خفض معدلات عجز الموازنة ودعم استدامة المالية العامة والنمو الاقتصادي في المديين المتوسط والطويل.
وخير دليل على ذلك، ما تم إعلانه منذ أيام بخصوص انخفاض عجز الميزانية العامة السعودية خلال النصف الأول من السنة المالية الحالية 2018 وبلغ حوالي 41.7 بليون ريال منخفضاً بحوالي 31 بليون ريال عن العجز المسجل في الفترة المماثلة من العام السابق 2017، رغم نمو النفقات بنسبة 26 % خلال فترة المقارنة، ويعود جزء من الفضل في ذلك إلى نمو ملحوظ في الإيرادات غير النفطية، بالتزامن، طبعاً، مع التحسن النسبي في أسعار الخام.
وتنفذ السعودية برنامجاً لتحقيق التوازن المالي بحلول العام 2023، وهذا البرنامج لا يستهدف فقط الأداء المالي، بل تحفيز النشاط الاقتصادي واستدامة المالية العامة على المدى المتوسط، من خلال إطلاق العديد من المبادرات، التي تستهدف تنمية الأنشطة الاقتصادية خاصة في القطاعات غير النفطية، فتم إطلاق مبادرات، مثل برنامج حساب المواطن، وخطة تحفيز القطاع الخاص، وأيضاً برامج تحقيق «رؤية المملكة 2030»، إضافة إلى زيادة الإنفاق الاستثماري في الميزانية؛ للإسراع في عملية الإصلاح الهيكلي المحفزة للنمو الاقتصادي وتوليد فرص عمل واعدة ومستمرة، وتمكين القطاع الخاص من تحقيق دوره في النمو الاقتصادي.
وتسير الإصلاحات الاقتصادية في باقي الدول الخليجية على نفس الوتيرة، إذ تُقدّم القطاعات غير النفطية، مثل الصناعات التحويلية غير النفطية والسياحة والعقارات والنقل والموانئ والخدمات المالية، مساهماتٍ نقديةً وتوظيفيةً مهمّةً في اقتصادات دول مجلس التعاون كافةً. وفي السعودية، تستحوذ تلك القطاعات حالياً على 50% من الناتج المحلي الإجمالي، ومن المرجَّح أن ينطبق الوضع نفسه على بقية الدول الخليجية. ومن الأمثلة اللافتة هنا السياحة التي تجتذب ما يربو على 53 مليون سائح إلى بلدان المنطقة سنوياً، والتي تُدرّ ما مجموعه 137 بليون دولار أمريكي من الإيرادات، مثلما توفّر 2.2 مليون فرصة عمل، وتجتذب استثمارات أجنبية متزايدة سنوياً.
إن منطقة الخليج، وفي ظل الإصلاحات الاقتصادية العميقة التي تجرى فيها حالياً أصبحت محط اهتمام المؤسسات الاستثمارية العالمية، باعتبار دول الخليج أرضاً خصبة للفرص الاستثمارية مرتفعة العوائد ومنخفضة المخاطر بفضل الاستقرار الذي تشهده هذه الدول وما تملكه من ميزات نسبية أخرى تؤهلها لتصدر باقي مناطق العالم في جذب الاستثمار الباحث عن ملاذات آمنة.

رئيس مجلس الإدارة التنفيذي

في إنفستكورب، رئيس مجلس إدارة بنك صحار

ليس من قبيل المصادفة أن تحصل دول الخليج وحدها على نصف قيمة الاستثمارات الأجنبية المباشرة المتدفقة

محمد بن محفوظ العارضي