لماذا استحقت توصيفات بول رومر لرأس المال البشري جائزة نوبل للاقتصاد؟

مقالات رأي و تحليلات الاثنين ٣١/ديسمبر/٢٠١٨ ٠٣:٣٦ ص
لماذا استحقت توصيفات بول رومر 

لرأس المال البشري جائزة نوبل للاقتصاد؟

صالح مسن

تعد جائزة نوبل للاقتصاد أعلى جائزة علمية تمنح للإنجازات الرائدة في مجال العلوم الاقتصادية، وهي ليست رسمياً ضمن الجوائز الخمس (السلام، الأدب، الطب، الكيمياء، الفيزياء) التي قام ألفرد نوبل بتأسيسها عام 1895م وإنما تم البدء بها عام 1968 في الذكرى 300 لتأسيس الجائزة. يتنافس جميع الاقتصاديين حول العالم لنيل شرف هذه الجائزة التي تعتبر تتويج لمسيرة طويلة من العمل الأكاديمي والبحثي. خلال هذا العام حصل الأمريكيان وليام نوردهاوس وبول رومر على جائزة نوبل للاقتصاد للعام 2018 ويأتي هذا الفوز تكريماً لأعمالهما في مواءمة متطلبات الابتكار ومكافحة الاحتباس الحراري مع النمو الاقتصادي العالمي. وأعلنت الأكاديمية السويدية الملكية للعلوم في بيان أن نوردهاوس الأستاذ في جامعة يال ورومر من جامعة سترن للأعمال في نيويورك، «طورا منهجيات تعالج تحديات تعتبر بين الأكثر أهمية في عصرنا: المواءمة بين النمو الدائم على المدى الطويل بالاقتصاد العالمي ورفاه سكان العالم». وقالت الأكاديمية أن وليام ورومر «قاما بتوسيع نطاق التحليل الاقتصادي إلى حد كبير عبر إقامة نماذج تشرح كيفية تفاعل الاقتصاد مع الطبيعة والمعرفة».

وكوني من المتابعين لأعمال بول رومر ومن المعجبين بأبحاثه فسوف أعرج بشكل مبسط على أهمية نظرية النمو الداخلي التي استحق بها رومر جائزة نوبل للاقتصاد 2018. لقد استحوذ موضوع النمو الاقتصادي على اهتمام الباحثين الاقتصاديين لفترات طويلة. ورغم تفاوت التركيز عليه بين فترة وأخرى إلا أنه بقي في صلب اهتمام النظريات الاقتصادية وهذا الاهتمام طبيعي لموضوع يقع في جوهر العملية الاقتصادية. حاولت نظريات النموّ الاقتصادي والتنمية على مدار التاريخ الاقتصادي أن توضّح الشروط الضرورية التي تؤدي إلى تحقّق النمو، ومن خلال تتبع أنماط النمو في الدول والأزمنة المختلفة يمكن الوصول إلى إجماع بين الاقتصاديين على مجموعة من العوامل التي تحكم علمية النمو الاقتصادي.

هناك مدارس فكرية اقتصادية متعددة تناولت قضية النمو والتنمية الاقتصادية وقدمت تحليلات متباينة حول العوامل الداخلية والخارجية للنمو وآليات التحول الهيكلي في اقتصاديات التنمية. طرح آدم سميث النموذج الكلاسيكي للنموّ في كتابه الشهير ثروة الأمم (1776) مُشيرًا إلى عدة عوامل تؤدي إلى زيادة النمو الاقتصادي وقد كان الاقتصاديون الكلاسيك ريكاردو، مالثوس وماركس من أوائل من تطرق لموضوع النمو الاقتصادي من خلال نظرياتهم، ثم جاء بعدهم النيوكلاسيك أمثال تشامبيتر، سولو وفي السبيعينات من القرن المنصرم انقطعت علمية التحديث والبناء في هذا المجال لتعود في الثمانينات والتسعينات بزخم كبير وبفكر إبداعي جديد تمثل في نظرية النمو الداخلي للعالم المبدع بول رومر.
كانت العملية الإنتاجية في النظريات الاقتصادية تعتمد على ثلاثة عوامل رئيسة، هي العمل ورأس المال والأرض (الموارد الطبيعية) فجاء المفكر الاقتصادي روبرت سولو R. Solow، وأدخل عامل التقدم التكنولوجي على النظرية الكلاسيكية الجديدة للنمو الاقتصادي في بحثه المنشور عام 1956. حيث اعتبر نموذج سولو للنمو التقدم التكنولوجي (إضافة إلى رأس المال والعمل) المصدر الأساس للنمو الاقتصادي على المدى الطويل. فمن خلال التقدم التكنولوجي، يمكن للاقتصاد أن ينمو بشكل مطرد ومستمر حتى وإن لم يحدث أي تغيير في كميات عناصر الإنتاج الأخرى، وذلك عن طريق رفع الكفاءة وزيادة الإنتاجية لعوامل الإنتاج.
وعليه لم يعد النمو الاقتصادي مرتبطاً فقط بعوامل الإنتاج التقليدية. بل أصبح مرتبطاً بالتقدم التقني والمعرفي في البلد. إلا إنه يعاب على هذه النظرية أنها لم تقدم تفسيرات منطقية لمصادر التقدم التقني والتكنولوجي، حيث افترضت هذه النظرية أن التقدم التقني يأتي من مصادر خارج نطاق النموذج، لذلك كان يطلق عليها «نظرية النمو الخارجية»Exogenous Growth Theory. هذا القصور النظري لنموذج سولو جعل بعض الاقتصاديين وفي مقدمتهم بول رومر P. Romer يطرح نظرية جديدة تربط النمو الاقتصادي بالتقدم التكنولوجي مباشرة وبصفة داخلية، سميت ب «نظرية النمو الداخلي «Endogenous Growth theory ففي هذه النظرية افترض رومر أن التقدم التكنولوجي يمكن الحصول عليه من خلال البحث والتطوير، ووجود عنصر بشري متعلم وقادر على توظيف وسائل الإنتاج التوظيف الأمثل.
تعتبر نماذج النمو الداخلي (الذاتي) من المنهجيات المعاصرة لنمذجة النمو الاقتصادي، وهى تهتم بإنتاجية عناصر الإنتاج شأنها في ذلك شأن معظم نظريات ونماذج الاقتصاد النيوكلاسيكي. بنيت نظريات النمو المعاصرة على نماذج التوازن الكلي الحسابية computable general equilibrium CGE وبالتالي صياغة آلية عملية للنمو الداخلي. وقد حلت هذه النظرية إشكالية التراجع في العائد على راس المال والذى يعيق النمو الاقتصادي في المدى البعيد من خلال الاهتمام براس المال البشرى لتحقيق الاستدامة التنموية حيث ركزت توصيفات نموذج رأس المال البشرى لدى رومر على أهمية الاستدامة واستمرارية النمو الاقتصادي بناءً على عوامل داخلية. ولهذا يرجع الفضل الى رومر لتطويره أهمية الأفكار والمعرفة في دعم النمو الداخلي، ويمكن ان نستنبط من ذلك ان الدول يمكنها الاهتمام بالبحوث والتطوير لتخطى صعوبات الحصول على التكنولوجيا وذك عن طريق الاهتمام بالتعليم وتطوير المعرفة.
يعتبر الجهد المبذول لإدراج نظرية النمو الداخلي في الفكر الاقتصادي المعاصر مهم جداً لوضع المبادرات وتصميم السياسات الاقتصادية، وبالطبع إبراز الأهمية النسبية لمحددات النمو الاقتصادي. تكمن أهمية هذه النماذج في التركيز على المقدرات الوطنية والاهتمام براس المال البشرى والمعرفي وتطوير الابتكارات المحلية لصياغة خطط الاقتصاد الكلي على أسس عملية متينة لتحقيق التنمية المستدامة.

وفي هذا السياق فإن الاهتمام بالتعليم والتدريب والابتكار لن يتأتى بدون تحديث المناهج الدراسية في جميع المراحل الدراسية مع التركيز على الرياضيات والعلوم التطبيقية واللغات الأجنبية في المراحل الأولى والتأكيد على مواكبة هذه المناهج للمتغيرات التكنولوجية والمعرفية لإحداث نقلة نوعية في مخرجات التعليم العام والعالي. ويتطلب ذلك إعداد استراتيجية وطنية للتعليم والبحث العلمي تعد الأجيال الحالية لمستقبل اقتصاد المعرفة، وتهتم بتوظيف الباحثين عن العمل عن طريق رفع كفاءتهم ومهاراتهم العملية والمهنية. كما أن من الدروس المستفادة من نظرية النمو الداخلي أهمية إصلاح سوق العمل ابتداء من توجيه التخصصات لتكون متوائمة مع احتياجات سوق العمل من ناحية وبناء القدرات العملية والمعرفية والمهارات الضرورية للباحثين عن العمل من ناحية أخرى، حتى يتسنى رفع إنتاجيتهم والاستفادة من معارفهم في الأنشطة الاقتصادية المختلفة.

رئيس اللجنة الاقتصادية بمجلس الشورى