تعرف على سلطانة العمانيين ورحلتها الأشهر في تاريخ العرب

بلادنا الخميس ٢٠/ديسمبر/٢٠١٨ ١٩:٠٧ م
تعرف على سلطانة العمانيين ورحلتها الأشهر في تاريخ العرب

@BusaidiNaser إعداد: نصر البوسعيدي
عُمان، مجان ومزون وتلك الحضارة العظيمة التي تتربع على عرش تاريخ الأمم والممتدة منذ أكثر من 6 آلاف عام، كانت ولا زالت خالدة في صفحات التاريخ.

لتصبح عُمان سيدة الخليج ولؤلؤتها الناصعة وتبزغ إمبراطورتيها في عهد سيدها السيد سعيد بن سلطان البوسعيدي من دانت له جغرافية شاسعة في القارة الآسيوية والإفريقية.

فالسيد سعيد بن سلطان يعتبر من أبرز قادة عُمان فهو التاجر والسلطان والسياسي المحنك الذي يسيّر بعمان رغم اتساع مساحتها نحو الاستقرار، والأمن وتنمية مواردها الاقتصادية، فكانت سفن الأسطول العماني تجوب البحار والمحيطات بين مختلف القارات، ليشكل أهل عُمان بحق همزة الوصل الحقيقية في خط التجارة العالمية، بين العالم الجديد والقارة الهندية والإفريقية، وخاصة تلك الكيانات الواقعة تحت نطاق السلطة العمانية.
ولأن السيد سعيد كان من أبرز الحكام العرب، فقد حرصت دول العالم المتقدم أن تبرم معه اتفاقيات دبلوماسية ومعاهدات صداقة وتجارة، لذا لا عجب أن نرى السفينة الأمريكية (بيكوك) القادمة من مدينة نيويورك وهي تحمل معها بقيادة قبطانها (آدموند كندي) وثائق تصديق المعاهدة العمانية الأمريكية الأولى والمتعلقة بالتجارة وتسهيل التخليص الجمركي وسفر الرعايا، ليستطيع من خلالها الأمريكان بيع منتجاتهم واستيراد الكثير من البضائع من خلال الموانئ العمانية.
وتصادف من خلال قدوم السفينة (بيكوك) وجود عاصفة شديدة بالقرب من جزيرة مصيرة، قبل وصولها إلى مسقط، ولقد علم السيد سعيد من خلال بحارته بأن هناك مشاكل عديدة ستواجه السفينة الأمريكية من جراء هذه العاصفة ليرسل لهم مباشرة السفينة سلطانة تحسباً لأي طارئ، وبالفعل وجد العمانيون السفينة بيكوك بحالة مزرية وكادت أن تغرق بطاقمها وحمولتها في قعر البحر، لولا نجدتها وجرّها إلى مسقط، وهناك رحب السيد سعيد بالأمريكان الذين كانوا يشكرونه لأنه أنقذ حياتهم، وسفينتهم من الغرق.
لم يستغرق الوقت طويلا حتى انتشر الخبر في جميع أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية، التي تناولت صحافتها ما قامت به السفينة سلطانة وسمات ونبل السيد سعيد بن سلطان، ليصبح هذا الحدث أبرز ما يشغل الرأي الأمريكي وقتها، فكتبت صحيفة (البوست المسائية) على سبيل المثال:
«لا يوجد في العالم المسيحي من يتصف بالأخلاقيات السامية التي أصبح العالم ينظر إليها بإعجاب وتقدير مثل ما ظهر في هذه المساعدة من جانب حاكم مسقط».
من جانب آخر أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية تتطلع بشكل أكبر في كسب ود عُمان بمعاهدة أخرى أكثر شمولية من الاتفاقية الأولى التي وقعت في عام 1833م بين البلدين.
ففي مجلس الشيوخ الأمريكي علت الأصوات من خلال السيناتور
(ليفي ووديري) الذي حاول جاهدا إقناع أعضاء الحكومة الأمريكية والرئيس الأميركي (جاكسون) للموافقة على إرسال وثائق رسمية للسيد سعيد بن سلطان تبدي فيه الولايات المتحدة الأمريكية رغبتها في تعزيز العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية مع عُمان، وفعلاً تم إرسال هذه الوثيقة الرئاسية برفقة (روبرتس) صهر السيناتور (ليفي ووديري) الذي وصل للسيد سعيد في زنجبار عاصمة عُمان الثانية بالقارة الإفريقية ليتم من خلال هذه المحادثات تعزيز بنود الاتفاقية الأولى التي ترجمها للعربية مستشار السلطان (سعيد بن خلفان) الذي أصبح فيما بعد القائم بأعمال القنصلية الأمريكية في مسقط.
وقد أسفرت هذه المفاوضات عن تعيين (ريتشارد بالمرووترز) قنصلا أمريكيا في زنجبار، وتوافد السفن التجارية الأمريكية على الموانئ العمانية محملة بالساعات والأحذية والمنسوجات والبنادق والبارود، لتعود حاملة معها التمر العماني والبن اليمني والصمغ والتوابل والعاج وغيرها من منتجات كان أهل عمان يتاجرون بها.
في هذه الأثناء فكر السيد سعيد بن سلطان بدبلوماسية عالية وبطموح بالغ الأهمية في أن يرى تجار عمان يتجولون في نيويورك والموانئ الأمريكية للاستفادة من بنود هذه المعاهدة بالشكل الأمثل، فقرر أن يرسل السفينة سلطانة وهي حاملة معها الوفد العماني وسفيره الذي سيختاره لإنجاح أهداف هذه المهمة.
إن أكثر الأمور التي أوقعت السيد سعيد بن سلطان في حيرة من أمره هي عملية اختيار سفيره للرئيس الأمريكي، ومن يمثل الإمبراطورية العمانية بهيبتها ومكانتها خير تمثيل، فوقع اختياره في البداية على أحد أقربائه وهو السيد (حسن بن إبراهيم) الذي كان يجيد اللغة الإنجليزية بكل طلاقة، ولكن السيد حسن اعتذر عن المهمة لأسبابه الخاصة، ليختار بعدها السيد سعيد سكرتيره الخاص (أحمد بن النعمان البحراني الكعبي) ليرأس الوفد العماني في هذه المهمة.
وأحمد بن النعمان الكعبي الذي ولد في عام 1784م، كان يعمل منذ الصغر في العديد من السفن التجارية، وما لبث أن أثبت قدرته وذكاءه في تولي المسؤوليات، حتى وصل لبلاط قصر السيد سعيد بن سلطان في مسقط، والذي أعجب بكفاءته ومقدرته القيادية وإجادته أكثر من لغة كالإنجليزية والفرنسية، فجعله سكرتيره الخاص في عام 1835م، وأوكل له مهمات عديدة ترأس فيها السفن التجارية التابعة للأساطيل السلطانية المتوجهة إلى الصين ومصر وبعض دول أوروبا، وبالتالي فإن اختيار السلطان للكعبي لم يكن من فراغ بل لمؤهلاته الشخصية التي جعلته أهلا لذلك.
وفي صيف عام 1840م أتت الأوامر من السيد سعيد بن سلطان لتجهيز السفينة سلطانة في مسقط وطاقمها المكون من 56 رجلا، بالإضافة إلى بعض الضباط العمانيين كـ(محمد بن عبدالله) و(محمد بن جمعة) والقبطان الإنجليزي (وليام سليمان).
وبعد وداع السيد سعيد للوفد العماني تحركت السفينة سلطانة من ميناء مطرح، وتوجهت مباشرة إلى زنجبار وهناك حملت معها الكثير من البضائع التي تشتهر بها القارة الإفريقية، بحمولة إجمالية تقدر بـ300 طن، لتكمل بعدها سلطانة العمانيين رحلتها الأشهر في تاريخ العرب.
وأثناء طريقها إلى الولايات المتحدة، توقف الوفد العماني في جزيرة سانت هيلانة، ليأخذ قسطا من الراحة ومنها قدم الكعبي لحاكم الجزيرة هدايا بالنيابة عن السيد سعيد تعبيرا عن الصداقة التي تربط البلدين.
وبعدها أبحرت سلطانة مكملة رحلتها في المحيط الأطلسي نحو نيويورك، وهي تقتحم تلك الأمواج العاتية والأعاصير في 87 يوما منذ انطلاقها من مسقط.
وما إن بزغ فجر يوم 30 من أبريل من عام 1840م، حتى تراءت لأهالي نيويورك سفينة مثقلة بحمــــــولتها تشق طريقها ببطء نحو المرفأ وهي رافعة ذلك العلم القرمزي الذي يشير إلى علم الإمبراطورية العمانية، وبأشرعة ممزقة أنهكها السفر، عليها رجال كالفرسان بملابسهم العربية الأصـــــيلة ومـــــلامح عروبتهم المدهشة التي امتزجت مع الأعياء الشديد برائحة البن والقرنفل.
وعقب رسو السفينة في ميناء نيويورك، رحبت بهم السفينة الحربية (نيوكارولينا)رسميا، ليبدأ بعدها العمانيون إفراغ حمولة سفينتهم في الميناء وهي عبارة عن:

1300 جراب من التمر العماني الذي كان محببا لدى الأمريكان.

21 سجادة إيرانية.
كميات كبيرة من بن بخا.
108 قطع من زراف الفيل.
81 حقيبة من الصمغ العربي.
135 كيسا من القرنفل.
1000 قطعة جلد مجففة.

وهدايا السيد سعيد بن سلطان للرئيس الأمريكي حينها (فان يورين) وهي عبارة عن:

فرسين عربيين أصيلين.

عقد من اللؤلؤ.
لؤلؤتين من الحجم الكبير.
120 قطعة من الأحجار الكريمة الملونة.
سبيكة من الذهب الخالص.
سجادة حريرية فارسية.
زجاجة عطر فاخرة.
6 عباءات كشميرية.
سيف مرصع بالذهب.

وما إن نزل العمانيون من على ظهر سفينتهم، حتى وجدوا أنفسهم محاطين بشريحة كبيرة من الشعب الأمريكي الذي كان مندهشا للغاية وهو يرى لأول مرة العرب بملابسهم وســـــماتهم المتميزة، ما أثار تعجب الوفد من تلك الأعداد الهائلة التي تجمهرت حوله، حيث وصفت الصحيفة الأمريكية (الهارليد الصباحية) هذا المشهد وكتبت:

«كان العرب ينظرون حولهم ويبرمون أشنابهم ويستغربون من نظرات التعجب التي تبدو على وجوه الأمريكيين. إنها مفاجأة مثيرة لنا حقا، والسيد سعيد شخصية مهمة وطموحة ومحبة للاستثمار».
وإكمالا للأحداث فقد ذكرت المصادر التاريخية أن أحمد بن النعمان الكعبي حاول جاهدا بعد عدة أيام أن يصل بنفسه للرئيس الأمريكي ليسلمه هدايا السيد سعيد بن سلطان، وهنا وقع الرئيس الأمريكي في حرج شديد وامتنع عن استلام الهدايا نتيجة القانون الأمريكي الذي يمنع أي عضو في الهيئة التنفيذية أو الحكومية من قبول الهدايا حتى وإن كانت من رئيس دولة، ليقرر بعدها مجلس الشيوخ الأمريكي قرارا نهائيا خاصا بهذه المسألة ببيع جميع الهدايا في مزاد علني يذهب لصالح خزانة الحكومة الأمريكية.
في المقابل حرص المعنيون في الحكومة الأمريكية على أخذ الوفد العماني في جولات رسمية إلى أهم وأبرز معالم مدينة نيويورك تقديرا لهم، ففي الأيام الأولى رافق وفد رفيع المستوى من أعضاء مجلس الشيوخ مبعوث السلطان أحمد بن النعمان الكعبي ومرافقيه إلى جولة في أرجاء نيويورك وبقية المدن الأمريكية، فقاموا بزيارة (معهد ومركز رعاية ذوي الاحتياجات الخاصة) ومنزل الرئيس السابق لمجلس الشيوخ، وسكة حديد (هارلم) وجزيرة (بلاكويل) و(بلفيو) وقاعة مجلس المدينة، وحوض (الأسطول الحربي الأمريكي) وقلعة (جاردن) والسفينة الحربية (كارولينا الشمالية) ومنزل قائد البحرية (رانشو) بحضرة (جليرتديفز) حاكم جزيرة كونوي.
بالإضافة إلى أخذهم في جولة عبر القطار إلى مدينة (لونج أيلاند) و(جاميكا) و(هكسفيل) واستُقبلوا هناك بشكل مهيب مع احتشاد عدد كبير من الناس للقائهم تاركين خلفهم سيرة حسنة وذكريات لا تنسى في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية.
وقد كتبت (صحيفة الهيرالد) عن هذه الجولات قائلة: «أثار العرب منذ أن جاؤوا إلى هذه البلاد الكثير من الاهتمام والعطف، وقد شاهدوا كل شيء وزاروا أماكن كثيرة غمرتهم بمختلف أنواع الهدايا على أن ما رأوه لا يثيرهم لدرجة الدهشة وكانوا دائما على استعداد للتحدث وهم باسمون، وأعينهم ناظرة إلى كل شيء باهتمام».
ولأن شخصية العماني أحمد بن النعمان الكعبي كانت الأكثر جدلا في نيويورك سارع أشهر الفنانين لطلب الإذن منه لكي يحظوا بفرصة تدوين ملامحه العربية في لوحاتهم، فقبل الكعبي دعوة الفنان الأمريكي (موني) الذي قام برسم الصورة المشهورة له والتي بقيت حتى يومنا هذا في مكتب لجنة الفنون بمبنى مدينة نيويورك وحفظت لنا هيئة هذا السفير الذي كان بحق من أهم أسباب نجاح مهام البعثة العمانية في الولايات المتحدة الأمريكية.
وبعد المفاوضات وصفقات البيع والشراء التي استمرت لقرابة الشهرين بين الجانبين، قرر الوفد العماني العودة إلى عُمان بعدما قامت الحكومة الأمريكية بصيانة السفينة سلطانة وتسليم أحمد بن النعمان الكعبي هدايا من الرئيس الأمريكي للسيد سعيد بن سلطان وهي عبارة عن:

مرآتين ثمينتين.

وشمعدانات مزخرفة فاخرة.
وزورقا أمريكيا.
وأسلحة نارية.

وبعد وداع رسمي مهيب في ميناء نيويورك، أبحرت السفينة سلطانة من المرسى لتعود إلى عُمان حاملة معها ذكرى الزيارة الأشهر في تاريخ العرب الحديث.

المرجع: سلطانة في نيويورك، أولى رحلات الأسطول العماني لأمريكا عام 1840م، تأليف: هرمان فردريك ايليس، ترجمة محمد أمين عبدالله، الطبعة السادسة 2015م، وزارة التراث والثقافة – سلطنة عمان.