الخروج البريطاني من التاريخ

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ١١/ديسمبر/٢٠١٨ ٠٤:١٥ ص
الخروج البريطاني من التاريخ

هارولد جيمس

حصل الاتحاد الأوروبي على موافقة الدول الأعضاء على اتفاق يحدد شروط خروج المملكة المتحدة من الكتلة. ولكن يظل من غير الواضح ما إذا كان الاتفاق ليحصل على موافقة غالبية البرلمانيين البريطانيين، نظرا لظاهره الذي يبدو وكأنه يترك سلطة اتخاذ القرار في ما يتصل بالشؤون البريطانية لأيد أوروبية.
ربما يكون من المعقول أن يفترض المرء أن المتشددين من أنصار الخروج سوف يرفضون الاتفاق لأنه من منظورهم أقل إقناعا حتى من الوضع الراهن. بطبيعة الحال، هناك وفرة من أنصار البقاء الذين يعارضون الخروج من الاتحاد الأوروبي بأي شكل من الأشكال. فعلى الرغم من كل عيوبه، من المرجح أن يحدث الخروج الذي تفاوضت عليه رئيسة الوزراء تيريزا ماي مع الاتحاد الأوروبي.
الواقع أن التراجع عن عملية الخروج الآن أمر غير محتمل إلى حد كبير. إذ يشكل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ثورة، وهذا يعني أنه من المحتم أن يتبع نمطا تاريخيا مألوفا. فكما تعلم العديد من الفرنسيين في العام 1789، والعديد من الروس بعد العام 1917، لا يمكن تجاهل الثورات أو إيقافها.
من المؤكد أن فصول ثورة الخروج البريطاني كانت تتابع في بلد لا يعرف التقاليد الثورية إلا قليلا. يتفاخر خبراء القانون البريطانيون بحقيقة مفادها أن النظام الدستوري في بلدهم تطور تدريجيا بمرور الوقت، وليس من خلال ذلك النوع من التمزقات السياسية الدرامية المثيرة التي شكلت قسما كبيرا من التاريخ الأوروبي القاري. لكن استفتاء يونيو 2016 وضع حد لهذه السلالة من الاستثنائية البريطانية. ومن عجيب المفارقات أن التصويت لصالح الرحيل أشار إلى أن بريطانيا لحقت أخيرا ببقية أوروبا. ففي وقت حيث يريد أغلب الأوروبيين الأمن والاستقرار، قررت أغلبية بسيطة من البريطانيين الإتيان بفِعلة جامحة ولا يمكن التنبؤ بها.
يتتبع بعض المؤرخين نُذُر الخروج من الاتحاد الأوروبي إلى خروج المملكة المتحدة من معيار الذهب في عام 1931، أو انسحابها في سبتمبر 1992 من آلية سعر الصرف الأوروبية. لكن الخروج من الاتحاد الأوروبي لا يعني إنهاء نظام نقدي فحسب ــ فهي عملية سهلة نسبيا وربما تفضي حتى إلى نتائج مفيدة على مستوى السياسات ــ أو الفرار من بعض السمات المزعجة الطارئة على الحياة السياسية الأوروبية المعاصرة. بل يمثل الخروج من الاتحاد الأوروبي إصلاحا جهازيا شاملا لكل شيء في نفس الوقت.
بعد عقود من الزمن من العضوية في الجهاز التنظيمي الأوروبي، يتطلب تحقيق الانفصال النظيف إعادة صياغة مضجرة ومعقدة لقواعد لا حصر لها. وحتى أصغر الأخطاء ربما يؤدي إلى عواقب غير مقصودة مدمرة. على سبيل المثال، ربما تفتح الثغرات المتغافل عنها الباب أمام ممارسات خطيرة أو انتهازية وجشعة؛ وفي عموم الأمر، ربما تتسبب اللغة الغامضة في جعل إطار العمل بأكمله خلوا من المعنى أو متناقضا مع ذاته.
بعبارة أخرى، كانت الممارسة بالكامل مشابهة لتصميم برنامج جديد لمعالجة النصوص من الصِفر. وأي شخص عاقل لابد أن يدرك سريعا أنه من الأفضل أن يلتزم بالوضع الراهن وحسب. لكن منطق الثورة يجعل مثل هذه التحولات في حكم المستحيل.
الواقع أن أغلب الحجج المؤيدة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي تفترض مفهوما تقليديا للسيادة، وهي ضاربة بجذورها في التاريخ الإنجليزي ــ وليس التاريخ البريطاني. فينظر أنصار الخروج بعشق إلى تحدي الملك جون للبابا إنوسنت الثالث في القرن الثالث عشر. وهم أكثر افتتانا حتى بعصر تيودور، عندما حَرَم هنري الثامن كنيسة إنجلترا من نير السلطة البابوية. وحتى يومنا هذا، تتمتع أسرة تيودور بحضور شبه كلي في الكتب المدرسية البريطانية والإعلام والأفلام والمخيلة الشعبية.
في إبريل 1533، أتت اللحظة الفارقة للإصلاح الذي قاده الملك هنري، عندما أقر برلمان إنجلترا قانون المحاكم الكنسية، الأمر الذي أعطى هنري الكلمة الأخيرة في ما يتصل بكل المسائل القانونية والدينية. كان المقصود من هذا القانون تحرير إنجلترا من سلطة بابوية تدين بالولاء لملك إسبانيا تشارلز الأول ــ أو كارلوس الخامس إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة. فطالما كان كارلوس قادرا على اتخاذ القرارات في روما، لم يكن هنري ليتمكن من تطليق عمة كارلوس، كاثرين أوف أراجون.
جاء في قانون المحاكم الكنسية أول تعريف تشريعي واضح للسيادة. فبنص القانون: "تُعَد مملكة إنجلترا إمبراطورية، وعلى هذا فقد قبلها العالَم تحت حكم رئيس وملك أعلى واحد...". ولكن كما هي الحال دائما، كانت الإجراءات التي أطلقت الثورة غير مكتملة. ولم تنجح القوانين التي تبناها البرلمان في ثلاثينيات القرن السادس عشر في إحلال البروتستانتية محل الكاثوليكية. لكنها مهدت الطريق أمام الإصلاحات الدينية لحمل الثورة إلى مرحلتها التالية.
مع ذلك، نشب خلاف كبير بين البروتوستانت عندما وصل الأمر إلى هيئة الإصلاح. فهل تتبع الثورة تعاليم لوثر، أو زوينجلي، أو كالفن، أو هل تحتضن رؤية أكثر راديكالية؟ في حالتنا هذه، دفعت الفصائل المختلفة بمناهج مختلفة، وكانت التحولات المتكررة والمفاجئة شائعة. ففي عام 1540، أُعدِم توماس كرومويل، الرجل الذي صاغ قانون المحاكم الكنسية الأصلي، بأمر من الملك؛ وفي عام 1556، أُحرِق على الخازوق رئيس الأساقفة توماس كرانمر، مهندس حركة الإصلاح الإنجليزية.
خلال حكم نجل هنري، الملك إدوارد السادس، الذي دام من عام 1547 إلى عام 1553، حمل الزخم الثوري إنجلترا بشكل نهائي في اتجاه البروتستانتية. ولكن كما يلاحظ المؤرخ إيمون دوفي، مع "تجريد المذابح" بشكل منظم طوال هذه الفترة، عانى كثيرون من الرعايا الإنجليز من التشتيت والتنفير. واستحوذ على الجسد السياسي حنين عظيم إلى النظام القديم، وبعد وفاة إدوارد، بدأت أخته ماري الأولى في عكس مسار العملية.
بيد أن الثورات المضادة تتطلب اتباع نهج لا يقل تطرفا عن الثورات ذاتها. ومع لجوء الدولة الإنجليزية إلى تدابير متزايدة الوحشية والهمجية، خلص العديد من الرعايا الإنجليز إلى أن الثورة المضادة كانت هي ذاتها معيبة ومختلة بشدة. وبعد وفارة ماري، أقرت إليزابيث الأولى التسوية والحلول الوسط في نهاية المطاف. ولكن مع ترك العديد من القضايا اللاهوتية دون حل، استمرت حركة الإصلاح عبر أشكال مختلفة من الثورات والتحولات العنيفة لعقود من الزمن. واستغرق الأمر جيلا كاملا على الأقل قبل أن يخمد الصراع.
من جانبه، كان هنري الثامن يريد دوما أن يدفن في قبر احتفالي حيث يتلى القداس (الكاثوليكي) إلى الأبد. لكن أمانيه ذهبت أدراج الرياح. وكان أفضل ما يمكن أن يقدمه البريطانيون هو ببساطة النسيان والمضي قدما.
بينما تبحر تيريزا ماي عبر المراحل الأخيرة من الخروج البريطاني، ينبغي لها أن تنتبه إلى دروس عصر تيودور. ففي أكثر الأحيان، تلتهم الثورات في نهاية المطاف أولئك الذين أشعلوا شرارتها.

أستاذ التاريخ والشئون الدولية في جامعة برينستون، وأستاذ التاريخ لدى معهد الجامعة الأوروبية في فلورنسا، ومؤلف كتاب "خلق وتدمير القيمة: دورة العولمة".