إسقاط الأموال من السماء

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ٢٣/مارس/٢٠١٦ ٠٠:٢٨ ص
إسقاط الأموال من السماء

كمال درويش

وجهت مجلة الإيكونوميست مؤخراً هذا السؤال إلى صناع السياسات النقدية: «هل نفدت ذخيرتكم؟» وقد أطلق ستيفن روتش على التحرك الأخير من قِبَل بنوك مركزية كبرى نحو أسعار الفائدة الحقيقية السلبية وصف «المحاولة العقيمة» التي لن تُسفِر إلا عن «تمهيد الساحة للأزمة التالية». وفي اجتماع وزراء مالية مجموعة العشرين في فبراير وَصَف محافظ بنك إنجلترا مارك كارني هذه السياسات بأنها «لعبة محصلتها صِفر في نهاية المطاف». فقد تضخمت ميزانيات البنوك المركزية، وبلغت أسعار الفائدة حدها الأدنى «القريب من الصِفر». ويبدو أن المياه الرخيصة وفيرة، ولكن الحصان يرفض شربها. ومع غياب أي علامات تشير إلى ارتفاع التضخم، وبقاء النمو على حالته الفاترة الهشة، يتوقع كثيرون النمو البطيء المزمن، ويخشى بعض المراقبين حدوث ركود عالمي آخر.

ولكن صناع السياسات لديهم خيار آخر: التحول إلى سياسة مالية «أكثر نقاء»، حيث يتم تمويل الإنفاق الحكومي عن طريق طباعة النقود ــ أو ما يسمى «الإسقاط بالهليوكوبتر». وتتجاوز الأموال الجديدة القطاعات المالية وقطاع الشركات وتذهب مباشرة إلى الخيول الأكثر ظمأ: أو المستهلكين من ذوي الدخول المتوسطة والمنخفضة. ومن الممكن أن تذهب الأموال إليهم مباشرة، من خلال الاستثمار في خلق الوظائف، ومشاريع البنية الأساسية التي تعمل على زيادة الإنتاجية. ومن خلال وضع القوة الشرائية بين أيدي أولئك الأشد احتياجاً إليها، يساعد التمويل النقدي المباشر للإنفاق العام أيضاً في تحسين الشمولية في الاقتصادات حيث أصبحت فجوة التفاوت في اتساع سريع.

في الوقت الحالي، يؤيد اليساريون والوسطيون إلقاء الأموال من الهليوكوبتر على هذا النحو، حتى أن بعض «المحافظين» الذين يدعمون زيادة الإنفاق العام على البنية الأساسية، ولكنهم يريدون أيضاً خفض الضرائب ويعارضون المزيد من الاقتراض يؤيدون هذا الاقتراح بحكم الأمر الواقع. ومؤخراً، ظهرت مقترحات أكثر جذرية، وهو ما يعكس الشعور بالإلحاح وخيبة الأمل على نطاق واسع إزاء التأثير الذي تخلفه السياسة النقدية الحالية. فبعيداً عن الدعوة إلى رفع الحد الأدنى للأجور، يدعو بعض الخبراء إلى «ضريبة الدخل العكسية»، مع فرض الحكومات لزيادات شاملة في الأجور على أرباب العمل في القطاع الخاص ــ وهي الخطوة التي من شأنها أن تدفع الأسعار إلى الارتفاع وتهزم التوقعات الانكماشية. والواقع أن مجرد تفكير خبراء الاقتصاد الذين لا تقترب آراؤهم حتى من آراء أولئك على أقصى اليسار في مثل هذه التدخلات يُظهِر إلى أي مدى أصبحت الظروف شديدة الصرامة. وأنا أؤيد كل هذه المقترحات بشكل أو بآخر. ومن الواضح أن تفاصيل تنفيذ هذه المقترحات لابد أن تتباين تبعاً لظروف كل اقتصاد. فألمانيا على سبيل المثال في موقف قوي يسمح لها بتنفيذ ضريبة الدخل العكسية، وذلك نظراً لفائض الحساب الجاري الضخم لديها، وإن كان الأمر لن يخلو من عقبات سياسية كبرى بلا أدنى شك. ولكن زيادة الإنفاق على التعليم، وتطوير المهارات، والبنية الأساسية، تكاد تكون من الخطوات البديهية في كل مكان تقريبا، وتنفيذها أكثر سهولة من الناحية السياسية بطبيعة الحال. ولكن هناك بُعداً آخر للتحدي لم يؤكد عليه أحد بالقدر الكافي حتى الآن، برغم تحذيرات كارني، وروتش، وغيرهما. ذلك أن أسعار الفائدة الحقيقية المتدنية إلى الصِفر أو السلبية تعمل عندما تصبح شِبه دائمة على تقويض التخصيص الفعّال لرأس المال وتمهيد الساحة لنشوء الفقاعات، وانفجار الفقاعات، والأزمات. وهي تساهم أيضاً في تعزيز تركيز الدخل عند القمة من خلال إلحاق الأذى بصِغار المدخرين، في حين تخلق الفرص لاستفادة كبار اللاعبين الماليين من القدرة على الوصول إلى المدخرات بتكاليف حقيقية سلبية. وبقدر ما قد يبدو هذا غير تقليدي، فمن المرجح أن يستفيد الاقتصاد العالمي من أسعار الفائدة الأعلى بعض الشيء.

وزير الشؤون الاقتصادية في تركيا سابقا،

والمدير السابق لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي