دروس من الحرب العالمية

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ٠٤/ديسمبر/٢٠١٨ ٠٤:٥١ ص
دروس من الحرب العالمية

دومينيك مويسي

لقد مَرّ قرن كامل، مئة عام منذ وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها. وفي أبهة عظيمة وبذخ، احتفلت بالذكرى المئوية كل من أستراليا، وكندا، وفرنسا، والمملكة المتحدة. وأرسلت ألمانيا مسؤولين رفيعي المستوى إلى فرنسا للاحتفال بهذه المناسبة، والتأكيد من جديد على المصالحة بين البلدين. لكن المصالحة بين فرنسا وألمانيا لم تتأت إلى أن عانت أوروبا من حرب مدمّرة أخرى. وهذا يوضح إلى أي مدى قد يكون السلام هشا، وخاصة عندما يكون القادة السياسيون قصيري النظر كما هي حالهم غالبا.

بحلول الوقت الذي شهد اندلاع الحرب العالمية الأولى، كان من الواضح أن ثورة التصنيع والنقل حوّلت الهيئة التقليدية للحرب. فقد خلّفت حرب القرم في الفترة من 1853 إلى 1856 أكثر من مليون ضحية، وأسفرت الحرب الأهلية الأمريكية عن موت أكثر من 600 ألف شخص.

في السنوات التي أعقبت الهدنة، فشل قادة أوروبا في تجاوز الخلافات التي كشفت عنها بوضوح الحرب العالمية الأولى، والتي كانت التوترات بين الفرنسيين والألمان أبرزها وأشدها وضوحا.
انعكس هذا الفشل في الهدنة ذاتها، التي فرضت على ألمانيا متطلبات مفرطة القسوة، بما في ذلك بلايين الدولارات كتعويضات، والتي كانت مستحقة عليها في وقت واجهت فيه البلاد أزمة اقتصادية طاحنة. من ناحية أخرى، كان الإشراف الدولي ضعيفا للغاية، حتى أن عصبة الأمم التزمت الصمت إلى حد كبير في مواجهة تطورات بالغة الخطورة، مثل إقدام أدولف هتلر على إعادة تسليح وعسكرة إقليم راينلاند في غرب ألمانيا. ومن المؤكد أن رفض مجلس الشيوخ الأمريكي لعصبة الأمم في عام 1919 -وبالتالي مبادئ التعاون الدولي والتعددية التي روّج لها الرئيس وودرو ويلسون- أدّى إلى تفاقم الأمور سوءا على سوء.
الأمر الأكثر جوهرية هو أن الحرب العالمية الثانية اندلعت بسبب السماح للنزعة القومية بالتمادي في غيها. على سبيل المثال، ظل رئيس الوزراء الفرنسي جورج كليمنصو أسيرا لنزعته القومية العميقة، وبشكل خاص ظل على عدائه الشديد لألمانيا. ولكن برغم أن نهج كليمنصو ربما يقود إلى كسب الحرب (وخاصة إذا ظهرت قوة مثل الولايات المتحدة لتقديم مساعدة حاسمة)، فإنه من غير الممكن أن يؤدي إلى كسب السلام، فالقومية الصارمة تقود بطبيعتها إلى الصراع.
رغم كل ذلك، نرى اليوم زعيما عالميا كبيرا، وهو رئيس الولايات المتحدة دونالد ترامب، يتصرّف على نحو أشبه كثيرا بتصرفات كليمنصو. ولا يخلو هذا من عواقب وخيمة ليس على الولايات المتحدة فحسب، بل وأيضا أوروبا.
حققت الحرب العالمية الثانية ما لم تستطع الحرب العالمية الأولى تحقيقه: فقد أنهت حقبة من الهيمنة الأوروبية على العالَم. ورغم نمو أوروبا وازدهارها منذ عام 1945، فإنها لم تستعد مكانة الزعامة العالمية التي حظيت بها دولها الرئيسية ذات يوم. وهذا يجعل الاتحاد الأوروبي اليوم تحت رحمة الولايات المتحدة التي رفضت التعددية واحتضنت القومية.
مكمن الخطر اليوم هو أن الأجيال التي لم تعرف الحرب، قد تعيد إنتاج سلسلة الأحداث التي أدّت إلى الحرب. ويتجلى هذا الخطر في احتجاجات «السترة الصفراء» في فرنسا ضد الضريبة البيئية على الوقود. كما كان المقصود من الاحتجاجات أن تخدم أيضا كتوبيخ أوسع نطاقا لماكرون، الذي يلومه كثيرون عن انحدار قدرتهم على الإنفاق. ربما يتصوّر المحتجون أنهم يتصرّفون بروح ثورة 1789 الفرنسية، الروح التي يجددها الفرنسيون دوريا في السياسة التي تنتهجها دولتهم. لكنهم في حقيقة الأمر يُعيدون تمثيل أحداث ثلاثينيات القرن العشرين، التي شهدت نشوء الحركات الاحتجاجية اليمينية وميليشياتها.
هذا لا يعني أن المواطنين الفرنسيين -وخاصة الشباب بينهم- ليس لديهم ما يستحق الشكوى. فقد ظلت معدلات الباحثين عن عمل مرتفعة للغاية لفترة طويلة، ورغم أن فرنسا أفلتت إلى حد كبير من اتساع فجوة التفاوت في الدخل إلى الحد المشهود في دول أخرى، مثل الولايات المتحدة، فإن أشكال التفاوت الجهازية منتشرة.
لقد تغيّر العالَم بشكل عميق خلال القرن الفائت. وأصبحت اقتصاداتنا أشد تشابكا من أي وقت مضى. ومن المؤكد أن حجم الدمار الهائل الذي قد تُحدثه أسلحة اليوم ربما يدعو إلى شيء أشبه بضبط النفس وكبح المشاعر
ولكن كما يتضح لنا بشكل صارخ من رئاسة ترامب الشاذة المنحرفة -بما في ذلك تحديه لتحالفات قديمة ومواقفه المتهورة في التعامل مع القضايا النووية- فإن الصروح التي بنيناها للحفاظ على السلام ليست حصينة ضد الإخفاق أو التعطل بأي حال من الأحوال. ومع احتضان الشعوب في أرجاء الغرب كافة لأفكار قومية وشعبوية، عدنا من جديد إلى الرقص على حافة البركان.

كبير المستشارين في معهد مونتين في باريس