أوروبا والقوة العسكرية

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ٢٧/نوفمبر/٢٠١٨ ٠٢:٢١ ص
أوروبا والقوة العسكرية

هانز فيرنر سِن

يقدم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب صورة لا تطاق عن نفسه في أوروبا. فهو لم يكتفِ بالشك في التزام أمريكا بالدفاع المتبادل تحت حكم الناتو، بل انسحب من جانب واحد من الاتفاقية النووية لعام 2015 بين إيران والدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، بالإضافة إلى ألمانيا والاتحاد الأوروبي.

منذ ذلك الحين، فرضت إدارة ترامب من جانب واحد حظرا على شحنات البضائع إلى إيران من أي بلد ثالث، بما في ذلك الموقعون الآخرون على الاتفاقية. وتواجه الشركات الأجنبية التي تواصل ممارسة أعمالها في إيران التهديد بفرض عقوبات عليها، كما أن البنوك التي تقوم بمعالجة المعاملات تخاطر بفقدان إمكانية الولوج إلى النظام المالي الأمريكي. في غضون ذلك، ظلت الولايات المتحدة تهدد بعمل مماثل فيما يتعلق بخط أنابيب الغاز الجديد «نورد ستريم 2» الذي سيمر من روسيا إلى ألمانيا. وينظر الكونجرس الأمريكي في قانون يسمح لإدارة ترامب بفرض عقوبات على الشركات الأوروبية المشاركة في المشروع، رغم أن هذه الشركات ملزمة بموجب عقد بإنجاز العمل. وبحسب جيرهارد شرودر، المستشار الألماني الأسبق الذي يرأس الآن مشروع خط الأنابيب، فإن السفير الأمريكي في ألمانيا يتصرف مثل «ضابط الاحتلال» أكثر منه كدبلوماسي. على كل حال، ترك سلوك إدارة ترامب المدمر الحكومتين الفرنسية والألمانية غاضبة. ولكن بعد إثارة الغضب، فإن هجمات ترامب على سيادة الدول الأخرى تضيف زخماً لدفعة جديدة من أجل الوحدة السياسية الأوروبية. لا يخفى على أحد أن أوروبا في خضم أزمة اقتصادية داخلية -نتيجة لوضعية اليورو التي تعصف ببلدان منطقة اليورو الجنوبية بتضخم مرتفع شبيه بالحقبة قبل الانهيار المالي الذي حدث في عام 2008، مما أدى إلى انخفاض شديد في قدرتها التنافسية داخل نظام اليورو. وقد أدت هذه المشاكل الاقتصادية إلى ظهور الأحزاب والحركات القومية الأوروبية في جميع أنحاء القارة. وفي الآونة الأخيرة، ضعف المشروع الأوروبي بسبب قرار المملكة المتحدة بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي.

على هذه الخلفية، فإن تصرفات ترامب هي في الواقع شيء من هبة من السماء؛ لأنها أجبرت الأوروبيين على قبول الوقوف سويا دفاعا عن سيادتهم وازدهارهم. لا يستطيع الاتحاد الذي يقارب 450 مليون شخص (بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي) السماح لدولة تمثل ثلثي حجمها بمعاملتها كمجموعة من الولايات التابعة لها.
وبناء على ذلك، أعلن كل من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل هذا الشهر أنهما يدعمان الحاجة إلى إنشاء جيش أوروبي مشترك. أفضل وسيلة لفهم هذا الجهد، كما قال وزير الدفاع الألماني أرسولا فون دير ليين، هو بمثابة إجابة على مطلب ترامب بأن ينفق الأوروبيين أكثر على الدفاع. بالطبع، يعرف فون دير ليين أن تشكيل قوة أوروبية مستقلة ليس في الواقع ما كان يدور في خلد الرئيس الأمريكي. لكن المؤسسة الألمانية تؤكد على نحو موثوق أن الجيش الأوروبي يهدف إلى تكملة حلف الناتو وتقويته.
إن التحالف عبر الأطلسي لن يكون أقل ضروريا مما كان عليه من قبل، ولن ينظر المواطنون الأوروبيون إلى نظرائهم الأمريكيين بأي تعاطف أو شعور أقل. العلاقات التاريخية العميقة بين الولايات المتحدة وأوروبا تبقى دون تغيير. يعلم الجميع أنه ستستمر أمريكا بعد ترامب.
والأفضل من ذلك أن أوروبا تسعى مرة أخرى إلى الوحدة السياسية بقوة وبإحساس بالهدف الجماعي، وهذا ما ينبغي أن تكون عليه. لقد عانى المشروع الأوروبي منذ فترة طويلة من إعطاء التكامل الاقتصادي مكان الصدارة في حين دفع بالوحدة السياسية إلى الهامش. وبالفعل، فقد وافقت فرنسا وإيطاليا ودول البنلوكس (بلجيكا وهولندا ولوكسمبورج) وألمانيا على تشكيل جيش أوروبي في وقت مبكر يعود إلى عام 1952 في إطار جماعة الدفاع الأوروبية. لكن الجمعية الوطنية الفرنسية لم تصادق أبداً على تلك المعاهدة، لذا لم تدخل حيز التنفيذ أبداً. ثم جاءت معاهدة ماستريخت، التي قدمت فرصة ثانية لاتحاد سياسي. لكن فرنسا وقفت في طريقها مرة أخرى. دعم الفرنسيون عضوية اليورو؛ لأنهم أرادوا أن تتمكن بلدان البحر الأبيض المتوسط، بما في ذلك أنفسهم، من الاقتراض بنفس المعدلات المنخفضة مثل ألمانيا في أسواق رأس المال. لكنهم قاوموا بنجاح إنشاء اتحاد سياسي، يقوم على أساس دولة مركزية بجيش مشترك واحتكار لاستخدام القوة العسكرية. إذا كانت فرنسا جادة الآن بشأن دمج الجيوش الوطنية في قوة دفاع مشتركة تحت قيادة الاتحاد الأوروبي المركزية -وليس فقط قوة تدخل لصالح مستعمراتها الإفريقية السابقة- فإن ماكرون يمكنه تأمين مكانه في كتب التاريخ. هناك الكثير من العمل الذي يتعين القيام به. ولكن إذا حدث ذلك، فسيقدم الشكر لترامب.

أستاذ علم الاقتصاد بجامعة ميونيخ، ورئيس معهد Ifo للأبحاث الاقتصادية سابقا، وهو عضو في المجلس الاستشاري الألماني لوزارة الاقتصاد.