ما العمل في أمريكا؟

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ١٣/نوفمبر/٢٠١٨ ٠٣:٥٢ ص
ما العمل في أمريكا؟

إيان بوروما

لم تكن النتائج كارثية على الأقل. فلو لم ينجح الديمقراطيون في تأمين الأغلبية في مجلس النواب الأمريكي، فربما كان الرئيس دونالد ترامب ليتصور أنه أصبح قادرا على كل شيء، مع كل ما قد يترتب على ذلك من عواقب وخيمة. لكن الجمهوريين ما زالوا يسيطرون على مجلس الشيوخ، وهذا يعني أن السلطة القضائية، بما في ذلك المحكمة العليا، سوف تزداد ميلا نحو اليمين. كما يعني انتخاب حكام جمهوريين في ولايات كبرى مثل أوهايو وفلوريدا أن الدوائر الانتخابية بات من الممكن التلاعب بها لتعزيز فرص إعادة انتخاب ترامب في انتخابات 2020.

كان أحد أكثر الكليشيهات السياسية شيوعا قبل انتخابات التجديد النصفي الأخيرة «معركة من أجل روح أمريكا». ومن السهل أن نتخيل أن الجمهوريين والديمقراطيين يمثلون نسختين مختلفتين من أمريكا: الأولى بيضاء بأغلبية ساحقة، ويتسم المنتمون إليها بالتعليم المتواضع، وتجاوز مرحلة الشباب، والقوة في المناطق الريفية، وهم من الذكور غالبا، ويفتخرون بأنهم يمتلكون أسلحة نارية؛ والثانية يتميز المنتمون إليها بأنهم أفضل تعليما، وأكثر شبابا وحضرية وتنوعا عِرقيا، وإناثها أكثر عددا، وهم حريصون على السيطرة على الأسلحة النارية. ربما تكون هذه الصورة تبسيطية، لكنها تعبر عن حقيقة واقعة يمكن تمييزها بوضوح.

ورغم أن كلا من الجانبين يعتقد أنه أمريكي وطني، فإن فكرة كل من الجانبين عن الوطنية تختلف عن فكرة الآخر تمام الاختلاف. يسوق الكاتب جيمس بولدوين الحجة لصالح الوطنية «التقدمية»: «لقد أحب أمريكا أكثر من أي دولة أخرى في العالَم، ولهذا السبب أصر على الحق في انتقاد سرمديتها». من الواضح أن الوطنيين من أنصار ترامب ربما يعتبرون بولديون خائنا.
الإغراء الكبير من منظور الديمقراطيين، وخاصة الآن بعد أن فازوا بالسيطرة على مجلس النواب، يتلخص في تحقيق القدر الأقصى من الاستفادة من ما يعتبرونه أكبر مواطن قوتهم: التنوع العِرقي والجنساني، والكراهية المشتركة لترامب. وربما يُعَد هذا موقفا منطقيا. ذلك أن ترامب مروع حقا، وبوسع الديمقراطيين أن يزعموا بشكل مشروع أن الرجال الريفيين المسنين من ذوي البشرة البيضاء أقل تمثيلا لأمريكا اليوم من الشباب الحضريين من غير ذوي البشرة البيضاء والنساء الممكنات حديثا.
من الخطأ رغم ذلك أن يكون تركيز الأجندة الديمقراطية على ترامب والتنوع. وسوف تنشأ الضغوط، وخاصة من قِبَل الديمقراطيين الأكثر شبابا، المشتعلين حماسا بفضل نجاحهم، لعزل الرئيس. ولكن ما دام مجلس الشيوخ، الذي لا يمكن عزل الرئيس دون إدانة من قِبَله، في أيدي الجمهوريين، فإن توجيه الاتهام من قِبَل مجلس النواب سيكون بلا معنى عمليا. وحتى في حالة توجيه الاتهام إليه رسميا فسيظل رئيسا للبلاد، وسوف يميل الجمهوريون إلى الدفاع عنه بقدر أكبر من الشراسة.
إنه لأمر طيب بكل تأكيد أن نجد أعداداً أكبر من الممثلين في السلطة التشريعية من النساء، وغير ذوي البشرة البيضاء، وغير المسيحيين. إذا أن هذا يوفر تباينا منشطا وضروريا للحزب الجمهوري، الذي أعاد تشكيل نفسه على هيئة زعيمه: غاضب، أبيض البشرة، وعنصري صريح عادة. لكن اللجوء إلى محاربة سياسات الهوية التي يتبناها ترامب بالاستعانة بشكل عدواني بنفس القدر من سياسات الهوية من شأنه أن يجعل القَبَلية السياسية أشد سوءا، وقد يزيد من صعوبة فوز الديمقراطيين في الانتخابات الوطنية.
هناك أيضا خطر دائم يتمثل في انقسام الديمقراطيين، مع تأليب الراديكاليين الأصغر سنا ضد المؤسسة البيضاء في الأغلب. لكن الجمهوريين، الذين يبدو أنهم توحدوا تماما خلف زعيمهم، لديهم أيضا مشكلة. الواقع أن الجمهوريين الليبراليين اجتماعيا من ذوي التعليم العالي الذين كانوا يشكلون العمود الفقري للحزب دُفِعوا حتى الآن إلى الهوامش حتى أنهم أصبحوا غير مرئيين تقريبا. وربما كان جون ماكين آخر المقاتلين من هذا القبيل.
يجب على الديمقراطيين أن يستفيدوا من ذلك. والسبيل إلى تحقيق هذه الاستفادة يمر عبر تقليص التركيز على الهوية الجنسية أو العِرقية أو النوعية، والتأكيد بشكل أكبر على الاقتصاد. وربما تبدو هذه استراتيجية ساذجة خلال طفرة اقتصادية، حيث يستطيع الجمهوريون أن يتباهوا بمعدل باحثين عن عمل منخفض بدرجة غير مسبوقة. ولكن حتى العديد من المحافظين التقليديين الذين يرفعون شعار «دعه يعمل، دعه يمر» لابد أن يدركوا أن الفجوة الهائلة الاتساع بين الأغنياء والفقراء ليست مفيدة للأعمال. وقد أدرك هنري فورد، الذي لم يكن ينبوعا للحكمة في التعامل مع كثير من الأمور، ضرورة وضع القدر الكافي من المال في جيوب الناس إذا كان راغبا في بيع سياراته.
هذه أيضا قضية قريبة من روح أمريكا المتصارعة. يرى بعض المراقبين أن الهوية الأمريكية تقوم على المشروع الرأسمالي الذي تجري في شرايينه دماء حمراء، والذي لا تعوقه ضوابط تنظيمية حكومية مفرطة في سعيه وراء السعادة المادية. ولكن في نظر آخرين، تستند أمريكا إلى مبدأ العدالة الاجتماعية والمساواة الاقتصادية ــ الذي ينبغي له أن يشمل اليوم الالتزام بالتصدي لتغير المناخ (القضية التي لم تُناقَش إلا بالكاد في انتخابات التجديد النصفي)، خاصة وأن الانحباس الحراري الكوكبي سيضر بالفقراء أكثر من إضراره بالأغنياء.
الواقع أن فاحشي الثراء عايشوا أوقات ازدهار، مثل العصر الذهبي في أواخر القرن التاسع عشر، عندما كانت 2% من الأسر الأمريكية تمتلك أكثر من ثلث ثروات البلاد، أو وقتنا الحاضر، حيث تمتلك 1% من الأسر ما يقرب من نصف ثروة البلاد. ولم يخل الأمر من فترات إصلاح، عندما حاولت الحكومات تصحيح التوازن. والمثال الأكثر شهرة على ذلك هو الصفقة الجديدة التي عرضها الرئيس الأمريكي فرانكلين د. روزفلت في ثلاثينيات القرن العشرين.
من الواضح أن الوقت حان لصفقة جديدة ثانية. وبدلا من الوعد بالمزيد من الإعفاءات الضريبية للمواطنين الأكثر ثراء، تستطيع سياسة مالية أكثر إنصافا أن تغطي تكاليف الجسور الضرورية وغير ذلك من المنافع والخدمات العامة التي من شأنها أن تعمل على تحسين حياة الجميع. وتُعَد الرعاية الصحية الميسرة لكل المواطنين دليلا على مجتمع متحضر. ولا تزال الولايات المتحدة بعيدة إلى حد كبير عن تحقيق هذا الهدف. ويصدق نفس الشيء على التعليم العام العالي الجودة. من المذهل أن أعدادا هائلة من المواطنين الذين من الممكن أن يستفيدوا من مثل هذه السياسات «الاشتراكية» مقتنعون رغم هذا بضرورة التصويت ضدها لأنها كما يفترض «غير أمريكية».
إن التركيز على مبدأ المساواة من شأنه أن يجتذب الليبراليين بطبيعة الحال، ولكن لا ينبغي له أن ينفر الناخبين المعتدلين أيضا، لأن المزيد من المساواة مفيد للاقتصاد. بل وقد يقنع حتى بعض أنصار ترامب الغاضبين الفقراء بالاعتراف بأن شعبويته الزائفة لا تبالي بمساعدة المتخلفين عن الركب في مدن حزام الصدأ والمناطق الريفية النائية. بل تدور حول إعطاء المزيد من المال لقِلة قليلة من الناس. ولابد أن تركز الرسالة الأساسية للديمقراطيين في العامين المقبلين على إظهار حقيقة مفادها أن الجميع يخسرون حتما في ظِل حكم القِلة الثرية.

أستاذ الديمقراطية وحقوق الإنسان في كلية بارد ومؤلف عدة كتب منها: «جريمة قتل في أمستردام: مقتل ثيو فان جوخ وحدود التسامح» و»السنة صفر: تاريخ عام 1945»