الحرب الطويلة

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ١٣/نوفمبر/٢٠١٨ ٠٣:٥١ ص
الحرب الطويلة

مايكل سبنس

يفسر بعض المراقبين الحرب التجارية التي بدأها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مع الصين على أنها تكتيك تفاوضي خشن، الهدف منه إجبار الصين على الامتثال لقواعد منظمة التجارة العالمية والمعايير الغربية لممارسة الأعمال. وفقا لهذا الرأي، سوف تستعاد المشاركة الاقتصادية المفيدة للطرفين بمجرد أن تلبي الصين بعض مطالب ترامب على الأقل. ولكن هناك العديد من الأسباب التي تدعو إلى الشك في مثل هذا السيناريو الحميد. فالحرب التجارية الطويلة بين الصين والولايات المتحدة تُعَد في حقيقة الأمر مظهرا من مظاهر الصِدام الأساسي بين الأنظمة.

بالفعل، كان التأثير السلبي للتعريفات الانتقامية المتبادلة ــ وخاصة عدم اليقين الذي تولده ــ جليا واضحا. والواقع أن التأثيرات النفسية، من منظور الصين، أكبر من التأثير التجاري المباشر. فقد هبطت أسعار الأسهم الصينية بنحو 30 % منذ بدأ الصراع، ولا يزال المزيد من الانحدار متوقعا. ولأن الديون المدعومة بالأسهم أُصدِرَت لقطاع الشركات المفرط الاستدانة في الصين، فقد تسبب هبوط أسعار الأسهم في إطلاق المطالبات بضمانات إضافية، فضلا عن مبيعات الأصول القسرية، الأمر الذي فرض المزيد من الضغوط التي دفعت قيم الأسهم إلى المزيد من الهبوط.

في محاولة للحد من التجاوز السلبي، كان صناع السياسات في الصين حريصين على تشجيع أسواق الأسهم وشد عزيمتها في كل أحاديثهم، كما عملوا على تمديد قنوات الائتمان للقطاع الخاص، وبشكل خاص للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم التي تتمتع بالجدارة الائتمانية لولا الظروف الحالية، والتي تظل محرومة من المزايا مقارنة بنظيراتها المملوكة للدولة. ويتبقى لنا أن نرى ما إذا كانت الحكومة لتتدخل بشكل مباشر في أسواق الأسهم.
ولكن بعيدا عن مخاطر الأمد القريب يبدو من المرجح على نحو متزايد أن تخلف الحرب التجارية عواقب مهمة طويل الأجل، على النحو الذي يؤثر على بنية الاقتصاد العالمي. كان النظام المتعدد الأطراف القائم على القواعد يستند لفترة طويلة إلى افتراض مفاده أن النمو والتنمية من شأنهما أن يقودا الصين بطبيعة الحال إلى اعتناق الحوكمة الاقتصادية على الطريقة الغربية. والآن بعد أن انهار هذا الافتراض إلى حد كبير، بات من المرجح أن نواجه فترة مطولة من التوتر حول الأساليب المتباينة في التعامل مع التجارة، والاستثمار، والتكنولوجيا، والدور الذي تلعبه الدولة في الاقتصاد.
في حين تميل الحكومات الغربية إلى الحد من تدخلها في القطاع الخاص، تؤكد الصين على سيطرة الدولة على الاقتصاد، الأمر الذي ينطوي على عواقب بعيدة المدى. على سبيل المثال، من الصعب استكشاف إعانات الدعم في القطاع المملوك للدولة، مع أن القيام بذلك أمر بالغ الأهمية لصيانة ما يعتبر في الغرب ساحة ممهدة تضمن تكافؤ الفرص للجميع. علاوة على ذلك، يُدار الاستثمار المباشر الأجنبي الصيني غالبا بواسطة شركات مملوكة للدولة، وبالتالي فإنه يغلف في كثير من الأحيان بالمعونة الأجنبية ــ وهو النهج الذي يمكن أن يضع الشركات الغربية في موقف الضعيف عند تقديم العطاءات في الدول النامية. وفي غياب أي نسخة من قانون الممارسات الأجنبية الفاسدة الأمريكي، تصبح الصين على استعداد أيضا لتوجيه الاستثمار المباشر الأجنبي نحو الدول والكيانات التي قد تتجنبها الشركات الأمريكية.
ثم هناك شبكة الإنترنت. فعلى الرغم من الأهداف المشتركة عندما يتعلق الأمر بخصوصية البيانات والأمن السيبراني، تتبنى كل من الولايات المتحدة والصين أدوات تنظيمية مختلفة تماما، والتي تتشكل مرة أخرى بفِعل أفكار متضاربة حول الدور المناسب للدولة.
وعلى الجبهة التكنولوجية، ستواصل الصين أيضا ملاحقة استراتيجية «صُنِع في الصين 2025»، والتي يتلخص الهدف منها في وضع البلاد على الحدود العالمية في مجالات يعتبرها قادة الصين أساسية للنمو الاقتصادي والأمن الوطني. ورغم أن السياسات الأمريكية المتزايدة العدوانية في إدارة التجارة والاستثمار ونقل التكنولوجيا ربما تؤدي إلى إبطاء هذه العملية، فسوف تحقق الصين أهدافها من خلال الاستثمار بكثافة في برامج البحث والتطوير، ونشر التكنولوجيا، ورأس المال البشري.
ونظرا للمنافسة الاستراتيجية الأوسع نطاقا بين الصين والولايات المتحدة ــ التي تفاقمت الآن بفِعل الحرب التجارية الجارية ــ فلا ينبغي لنا أن نتوقع العودة إلى شكل ما من أشكال نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية الذي كان قائما على القواعد والقيم وأنظمة الإدارة الغربية. وقد أصبح من الممكن الآن تعريف النظام العالمي ليس على أساس القواعد المشتركة بل على أساس التوازن بين القوى الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية.
على سبيل المثال، من المرجح أن نشهد فرض قيود أكثر صرامة على نقل التكنولوجيا والاستثمار، وهو ما يرجع في الأساس إلى اعتبارات ترتبط بالأمن الوطني. وربما تلاحق الدول أيضا قدرا أعظم من الاكتفاء الذاتي اقتصاديا، وهو ما ينطوي على عواقب رئيسية مؤثرة على سلاسل العرض والتجارة العالمية.
وربما يظل في الإمكان إنشاء نسخة من نظام مفتوح متعدد الأطراف؛ وهذا أمر بالغ الأهمية للدول الأصغر حجما و/‏أو الأكثر فقرا. لكن مثل هذا النظام لابد أن يضع في الحسبان الاعتبارات الخاصة بتوازن القوى في ما يتصل بالعلاقة بين الولايات المتحدة والصين، وربما اقتصادات رئيسية أخرى، مثل الاتحاد الأوروبي والهند. في عالَم حيث تتباين نماذج الحوكمة التي تتبناها القوى الرئيسية، يشكل تصميم نظام قابل للتطبيق تحديا كبيرا. ولا يخلو الأمر من خطر حقيقي يتمثل في إرغام الدول الأصغر حجما في نهاية المطاف على الاختيار بين مجالين متنافسين للنفوذ.
مع افتقار إدارة ترامب للحماس لأي شكل من أشكال التعددية، وربما بسبب الآمال المتبقية في الحفاظ على النظام القديم المتعدد الأطراف، فإن لا أحد يحاول جادا تطوير بدائل معقولة. وما قامت به الإدارة الأمريكية مؤخرا هو أنها تراجعت عن موقفها السلبي بشأن المساعدات الأجنبية، ربما في الاستجابة للاستثمارات الصينية الضخمة في الدول النامية.
إذا كانت الحكومات تعتزم الانخراط في حروب تجارية، فيجب أن تعكف أولا على تكوين رؤية واضحة وعملية للغاية التي تريد أن تنتهي إلى تحقيقها. وفي ضوء الظروف الحالية، تتخذ الصين موقفا لا يتزعزع من القضايا الإقليمية والدور المركزي الذي يلعبه الحزب الشيوعي الصيني في الاقتصاد، فضلا عن هدفها المتمثل في اللحاق بالولايات المتحدة تكنولوجيا، أو حتى التفوق عليها. ولكن لا يبدو أن الولايات المتحدة قررت لأي غرض تقاتل على وجه التحديد.
بطبيعة الحال، يمكننا تمييز العديد من الأهداف المحتملة بسهولة. فالولايات المتحدة تريد خفض العجز التجاري الثنائي وإعادة وظائف التصنيع إلى الديار. وفي سعيها إلى تحقيق هذه الغاية، تريد الولايات المتحدة أن تلغي الصين أعانات الدعم، ونقل التكنولوجيا القسري، وغير ذلك من أشكال «الغش»؛ وأن تعمل على تحقيق تكافؤ الفرص للمستثمرين الأجانب في السوق الصينية؛ وأن تتبنى حتى ممارسات إدارية أقرب إلى النمط الغربي. كما تريد الولايات المتحدة بشكل خاص الاحتفاظ بتفوقها التكنولوجي والعسكري.
ومع ذلك فإن مدى قابلية أي من هذه الأهداف للتفاوض يظل غير واضح. ونتيجة لهذا، تبدو الحروب التجارية أقل شبها بتكتيكات التفاوض الخشنة، وأقرب إلى مباراة في التخمين حول قائمة من الأماني. وهذا من شأنه أن يطيل أمد الصراع، ويزيد من انعدام الثقة، وفي الأمد البعيد يزيد من صعوبة استعادة أي مظهر من مظاهر التعاون المفيد لكل الأطراف، وكل هذا ينطوي على عواقب وخيمة تضر بالاقتصاد العالمي في الأمد البعيد.

حائز على جائزة نوبل في الاقتصاد وأستاذ الاقتصاد بكلية ستيرن
لإدارة الأعمال بجامعة نيويوروك وزميل زائر متميز في مجلس
العلاقات الخارجية وزميل معهد هوفر بجامعة ستانفورد