باريس-وكالات:
في الساعة 11:00 صباح يوم 11 نوفمبر عام 1918، صمت صوت المدافع على الجبهة الغربية في أوروبا وكان ذلك إعلانا لنهاية صراع استمر أربع سنوات وأودى بحياة 10 ملايين مقاتل وملايين المدنيين.
فقبل مائة عام وفي الساعة الخامسة من صباح الحادي عشر من شهر نوفمبر، وقعت الهدنة التي وضعت حداً لفظاعات الحرب العالمية الأولى في عربة قطار تابعة لرئاسة الأركان الفرنسية، في غابة كومبياني (شمال باريس)، في المحلة المعروفة باسم «ريتوند». وسُميت هذه الحرب «عالمية» بسبب اتساع المناطق التي شهدت المعارك والموزعة على العديد من الجبهات والقارات، وبسبب العدد الكبير من الدول التي شاركت فيها. فما بين 1914 تاريخ انطلاق هذه الحرب، و1918 تاريخ انتهائها، شاركت فيها جيوش من نحو عشرين بلداً، وعُبئ من أجلها ما لا يقل عن 66 مليون رجل موزعين بين تحالف إمبراطوريات وسط أوروبا (الألمانية والنمساوية والمجرية والتركية والبلغارية، إضافة إلى دول أخرى)، والتحالف الثلاثي (فرنسا وبريطانيا وروسيا) الذي انضمت إليه الولايات المتحدة في العام 1917 وقبلها إيطاليا والبرتغال وصربيا... أما عدد الضحايا من العسكريين والمدنيين فكان الأكبر في التاريخ، إذ بلغ 38 مليون شخص موزعين بين قتلى وجرحى ومفقودين. كما أنها كانت المرة الأولى التي ظهر فيها السلاح الكيماوي واستُخدمت الطائرات الحربية والدبابات بحيث إنها كانت أولى «الحروب الحديثة».
صباح الهدنة
ودخلت هدنة 11 نوفمبر 1918 حيز التنفيذ عند الساعة 11 صباحاً. على جبهات القتال الأمامية كما في المناطق التي لم تطلها الحرب (العالمية الأولى)، كانت ردود الفعل متباينة. ففي حين كان البعض يحتفل بالنصر، شعرت الأغلبية بالارتياح، فيما ظل كثيرون يبكون مفقوديهم.
"انتهى كابوس أربع سنوات ونصف. إنها الهدنة. أمر بالكاد يصدق: نهاية المجزرة مرت مرور الكرام بيننا ولم تثر أي تظاهرة (فرح). كنا متعودين على الحرب إلى درجة أنها كانت تبدو لنا دون نهاية".
هذا ما يقوله في الحادي عشر من نوفمبر 1918 خافيير شايلة، فارس بالمدرعة الثامنة، دون أن يشعر بأية فرحة. ففي حين بالكاد توقف إطلاق النار، لا يشعر الجندي سوى بالارتياح.
"الكابوس" هي العبارة التي تتكرر بكثرة في الرسائل والشهادات التي جمعت في آخر كتاب للمؤرخ والأستاذ في جامعة "جان جوريس" بمدينة تولوز ريمي كازالس. ويقول كاتب "نهاية الكابوس" (دار النشر بريفار) "هذه الكلمة ترمز إلى الرعب، لكن توضح أيضا أنه بالنسبة للذين عايشوها كانت فترة 14-18 فاصلا وسط حياة سلمية عادية. كانت بمثابة كابوس".
هدوء مذهل حقاً
عن هذا اليوم الموافق لـ 11 نوفمبر 1918، بقيت صور الابتهاج والعناق والرقصات الجنونية راسخة في الأذهان، لكن الصمت كان مخيما على الجبهات على غرار ما تظهره شهادات دونت في الرسائل والمذكرات الشخصية.
يقول إيلي بارتابورو وهو ملازم ثان في كتيبة مقاتلي جبال الآلب الـ17 "تحدثونني عن احتفال خارق بالهدنة، إنكم مخطئون! فإن قوبلت في الداخل بتظاهرات فرح خيالية، استقبلنا نحن الخبر (وأظن أنه الحال لدى كامل الجيش) بهدوء مذهل حقا". من جهته يتساءل كامي روفيار من فوج المشاة الـ411 "ألا نضحك؟ ألا نغني؟ ألا نقبل بعضنا؟ ألا نقفز فرحا؟ ألا ننفجر؟ إنه السلام! السلام يا إلهي! فهل نبقى هامدين؟ الويل! هل قتلنا من الداخل؟".
العديد من هؤلاء الرجال لم يتمكنوا من إدراك أن قصف المدافع انتهى أخيرا. ففي الخنادق، كان الشك سيد الموقف. ويصف نقيب فوج المشاة الـ115 جيرار شومات ما حصل بهذه العبارات "ما شعروا به وقتها كان أقرب إلى مفاجأة هائلة من الفرح؟ ممكن؟ هل كان ذلك ممكنا؟ لقد ظلوا مذهولين ومصدومين أمام حدث مهيب ويصعب تصديقه".
بعد أربع سنوات من القتال، من الصعب تصور أن الحرب انتهت. يوضح ريمي كازالس "دخلوا في أغسطس 1914 في حرب كان يتوقع أن تكون قصيرة جدا. ثم مرت الأعوام 1915، 1916 و1917... العديد من المقاتلين كانوا يقولون "سنعيش حربا من 100 عام". كانوا يشعرون بأن ذلك لن ينتهي أبداً".
لكن في صفوف المدنيين أيضا كان العديد يفكرون في الموتى. فعمدة ماند (جنوب فرنسا) إيميل جولي الذي فقد ابنه بول، لا يخفي حزنه العميق "اليوم يكبر أسفنا ويحتد يأسنا. هذا النصر الذي تحتفل به الآن فرنسا الجريحة هو من إنجاز مفقودينا الأعزاء. لكن أكاليل الغار التي تغطي قبورهم عاجزة عن التخفيف من مرارة دموعنا".
لا نشعر بأي فرح
كيف ننفجر فرحا في حين سقط العديد من الأصدقاء في ساحة المعركة؟ فالساعة ساعة خشوع حسب موييز هبرار من فوج المشاة الـ70 "دق النفير: إنها حقا الهدنة. ردة فعلنا: نفكر في زملائنا الذين ماتوا، في عائلاتهم، ولا تعترينا أية فرحة. ففي أذهاننا دائما الأصدقاء الذين نعرفهم أو لا والذين لن يعودوا إلى بلدانهم".
في المناطق التي لم يصلها القتال، كان الشعور متباينا. ففي العاصمة تجمع الفرنسيون إبان الإعلان عن الهدنة للاحتفال بهذا النصر. يروي الضابط مساعد أول بيار بيلي "في المساء، كنت في باريس. الحماسة كانت جنونية، وأنا متيقن أننا لم ولن نرى أبدا تظاهرة مماثلة. كانت الشوارع الكبيرة تغص بالحشود، وزينت البيوت من القاع إلى السقف". في الأرياف كانت أيضا الأجواء احتفالية. ففي كاركاسون مثلا تنساق المراهقة ماري سان مانس وراء البهجة الجماعية "الكل كان في عيد، والناس يرقصون ويصدحون بأناشيد وطنية، وكأن حلقة الاحتفالية تطوق المدينة".
ويسمعنا ريمي كازالس أيضا أصوات كبار منسيي 11 نوفمبر: سجناء الحرب في ألمانيا وأيضا أولئك الذين واصلوا القتال بعد هذا التاريخ. إذ استمر القتال على الجبهة الشرقية لمدة أشهر في جنوب روسيا وضد البولشفيين، فاعتبر الجنود أنهم أقصوا من هذا الحفل الكبير. ففي 14 يوليو 1919 يشتكي إيتيان ريفردي وهو من الفوج الثالث للصبايحية، والذي أرسل حتى أوديسا "تصورت أن كامل اليوم في فرنسا كان الاحتفال وكان الناس يستمتعون للغاية. بالنسبة إلينا، التسلية الوحيدة كانت المناظر الطبيعية وإطعام الحيوانات".
وبنقل أصوات الفرنسيين عبر هذه الشهادات، يظهر ريمي كازالس بطريقة حميمية ما شعروا به عند الإعلان عن نهاية الحرب. فقد عاشت العائلات والجنود بطرق مختلفة يوم 11 نوفمبر/تشرين الثاني سواء أضفت عليه مسحة الحزن أو السعادة، وكان في كل الحالات يوما لا ينسى فطبع جميع المخيلات. وتلخص ماري سان مانس الوضع بقولها "إنها ذكريات بعيدة جدا بما أن عمري كان 14عاما! لكن لحظات ذلك اليوم لن تمحى من ذاكرتي".
انتقادات لترامب
وفي باريس حيث الاحتفال بمئوية انتهاء الحرب العالمية الأولى تعرض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لانتقادات إثر إلغائه زيارة كانت مقررة لمقبرة تضم رفات جنود أمريكيين قضوا خلال الحرب العالمية الأولى. وأرجع البيت الأبيض في بيان الإلغاء إلى "صعوبات لوجستية ناجمة عن الطقس"، وهو ما أثار سخرية البعض، خاصة وأن المطر لم يمنع الرئيس الفرنسي والمستشارة الألمانية من زيارة نصب تكريمية بمناسبة الاحتفالات بمئوية الحرب العالمة الأولى.
وألغى ترامب السبت زيارة كانت مقررة إلى المقبرة الأمريكية في بوا بيلو في فرنسا بسبب الطقس الماطر، ما عرضه لانتقادات واتهامات بعدم احترام للجنود الأمريكيين الذي قضوا إبان الحرب العالمية الأولى.
وترامب الذي يزور فرنسا للمشاركة في إحياء الذكرى المئوية لانتهاء الحرب العالمية الأولى، كان من المفترض أن يتوجه مع زوجته ميلانيا على متن مروحية إلى بوا بيلو، التي كانت ساحة معركة وتضم مقبرة لجنود المارينز الذين حاربوا القوات الألمانية في 1918.
وقال البيت الأبيض في بيان إن "رحلة الرئيس والسيدة الأولى إلى المقبرة والنصب الأمريكيين في اين-مارن، ألغيت بسبب مواعيد وصعوبات لوجستية ناجمة عن الطقس".
وأوفد ترامب نيابة عنه كبير موظفي البيت الأبيض الجنرال جون كيلي ورئيس الأركان المشتركة الجنرال جو دانفورد إلى المكان الذي يبعد 80 كلم شمال شرق باريس.
ورأى البعض في عدم ذهاب ترامب إلى بوا بيلو ما ينم عن عدم احترام للجنود الأمريكيين الذين حاربوا وقتلوا في الخنادق.
وقتل أو جرح أكثر من 7 آلاف جندي في معركة يونيو 1918 في بوا بيلو. وتضم المقبرة رفات 2289 من قتلى الحرب.
وأثار إلغاء الزيارة سخرية من بعض المنتقدين إذ قال العديد منهم إن ترامب خشي أن يتبعثر شعره، فيما لاحظ آخرون أن المطر لم يمنع الرئيس ايمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية انجيلا ميركل أو رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو من زيارة نصب تكريمية.
وغرّد نيكولاس سومس، عضو البرلمان البريطاني عن حزب المحافظين وحفيد ونستون تشرتشل "ماتوا في مواجهة العدو فيما ذلك البائس غير المؤهل دونالد ترامب لم يتمكن حتى من تكريم الذي سقطوا في المعركة".
وقالت مجموعة الضغط فوتفيتس التي تضم قدامى المحاربين "اشتكى دونالد ترامب لاضطراره للوقوف في المطر للتحدث عن المجزرة في بيتسبرج، لأن ذلك بعثر شعره (أكثر)".
وأضافت: "اليوم سيمتنع عن تكريم أبطال أمريكيين سقطوا في الحرب العالمية الأولى وسيبقى في غرفته في الفندق بسبب بعض المطر".