«فولتير العرب».. خالداً

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ٢٢/مارس/٢٠١٦ ٠٠:٣٠ ص
«فولتير العرب».. خالداً

محمد بن سيف الرحبي
alrahby@gmail.com
www.facebook.com/msrahby

من يترك علماً فإنه لا يموت.. يرحل عنّا فقط، لكنه لا يمكن إلا أن يبقى خالداً، كما فعل العظماء عبر مراحل التاريخ، تنسى الأمم حكّامها وملوكها ولا تنسى علماءها وكتّابها الذين كتبوا عظمة بقائهم بإبداعات أثرت وأثّرت في وجدان شعب.

كان رحيلاً هادئاً لفولتير العرب، جورج طرابيشي، لدرجة غير لافتة.. ووصلني على استحياء، مع أنه، لمن درس فكره، يعدّ علماً بارزاً في الساحة الفكرية العربية، وقدّمه د. وليد خالص بدراسة معمقة مقارناً بين ما كان عليه التراث الفولتيري في الثقافة الفرنسية عبر 150 مرجعاً عاد إليها الباحث وهو يفتش عن التقاءات فكرين وتأثيرهما على ثقافتين، وذلك في كتابه «لو كان فولتير عربياً» مقتنصاً من أقوال فولتير: «إن أكبر شر يصيب رجال الفكر والأدب هو أن يحاكمهم الأغبياء، ويراقبهم الجهلة، فالغبي الجاهل يجمع بين الجهل، والحسد، والانتقام، والتعصب، إن رجل الأدب بلا عون، إنه كالسمك الطائر، إذا ارتفع في الهواء أكله الطير، وإذا هبط إلى الماء ابتلعته الأسماك»، علماً أن 161 عاماً تفصل بين ولادة فولتير وطرابيشي.

هذه المقاربة من العمق ما يجعل اختزال الكتابة عنها أمراً عسيراً في مساحة صغيرة كهذه، لكن لا يمكن إلا الالتفات لتجربة عميقة كالتي تركها جورج طرابيشي، وهو يضيء شموع التنوير لعلها تبزغ، وهو يواجه مأزقاً عربياً، بخاصة في بلاده سوريا..
تخصص طرابيشي في نقد فكر محمد عابد الجابري، لكنه ترجم أكثر من مائتي كتاب، وترك للمكتبة العربية جملة من الإصدارات الجدلية منها «سارتر والماركسية» في عام 1963 ثم عاد ليكتب مرة أخرى «الماركسية والإيديولوجيا» عام 1971 «والمثقّفون العرب والتراث التحليل النفسي لعصاب جماعي» عام 1991، و»هرطقات» في جزأين، الأوّل 2006 « عن الديمقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة العربية» والثاني عن «العلمانية كإشكالية إسلامية -إسلامية»، و»المعجزة أو سبات العقل في الإسلام»، وأصدر أيضا خمسة مجلدات تخصصت في «نقد نقد العقل العربي»، كان آخرها الجزء الخامس «من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث» وفيها نقد المشروع الفكري للجابري.
هذا الإرث العلمي، في تدفقه كماً وكيفاً، سيبقي طرابيشي حاضراً في ذاكرة أمة، وإن بدا أنها تفقد ذاكرتها على نحو متسارع، حيث الكتابات الفكرية ذات البعد الفلسفي ليست بذات الحضور كما هي ثقافة التسطيح وبناء ركام من الأوراق لا يخلخل فكر الأمة لتستيقظ على قراءة واعية لتراثها، وحاضرها، لعلها تسترشد لمستقبلها المسلوب منها عنوة.
مات طرابيشي بعيداً عن وطنه الأم سوريا، ووطنه الأوسع، بلاد العرب، في باريس، على تربة بلاد فولتير، حيث أقام فيها متفرغاً للكتابة، كأنما يوقّع على تلك المقاربة لدى د. وليد خالص وسؤاله: لو كان فولتير عربياً.. أفما كنت ستكونه؟!

سيبقى فولتير خالداً أكثر في الثقافة الفرنسية، لأنه دفن في تربة وطنه، بينما لم يكتب لفولتير العرب أن يعيش في وطنه.. إنما فكره سيبقى يناضل من أجل الخلود.