زمن العمى..

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ٠٧/نوفمبر/٢٠١٨ ٠٣:٤٩ ص
زمن العمى..

لميس ضيف
جاء رجل إلى عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) مختصما وقد فقئت عينه. فضج الحضور بالاستهجان لكن ابن الخطاب لم يتعاطف معه ولم يحكم على الجاني أو يزدريه بل طلب إحضار الخصم. ووسط دهشة الجالسين الذين كانوا يرون الواقعة بيّنة ولا تحتاج لإثبات أو تبيان قال قولته الشهيرة: "انظروا لمن فقأ عينه، فقد يكون قد فقئت عيناه".
ليست الأمور كما تبدو دوما، خصوصا بين الخصوم؛ فالعداوة إن توطنت في العلاقات الشخصية أو السياسية فإنها تفسد الضمير وتتلف المنطق. فيتباكى المختصم من ضربات خصمه وقد تكون ضرباته له أكبر، ويضخم جرائمه وقد يكون قد فاقه في صنوف الإجرام. ويسحق مآثره -ولكل مهما تراكمت ذنوبه مزايا- ذاك لأن العدل يخرج من الشباك إن دخلت الخصومة من الباب. وكثير من أرباب العلم والدين، ومن عرفوا بين الناس بالصلاح والعقل وحسن الفطن، خلعوا صفاتهم الحميدة وعرتهم العداوة على رؤوس الأشهاد.
ولكن الناس لا ترى ذلك دوما، تنساق خلف الدعايات والأخبار والمواضيع والمقالات المؤدلجة كالقطيع الأعمى. نعم، هناك قطيع مبصر وآخر أعمى. أحدهما يتبع خوفا وطمعا رغم معرفته بأنه بيدق في لوح شطرنج. أما شر التابعين فهم أولئك الذين ختم الله على أفئدتهم فسلموا عقولهم لغيرهم وأصبحوا، في ساعات العداء، أشد شراسة من قائدهم!
ربما كان الناس فيما قبل غير متعلمين إلا بعلوم الدين وما ينهلونه من علم الرجال. ولكن عقولهم كانت صافية وأحكامهم عادلة. أما نحنُ فنعيش في زمن بلغ المرء فيه من العلم مبلغا عاليا، ويقضي ثلث عمره في المتوسط في الدراسة والتحصيل، ويقرأ بألسنة العرب والعجم، ويجوب بلدان العالم ويخالط ثقافاتهم، لكنه -رغم ذلك- خفيف العقل؛ لأنه ينقاد لما يُحشى به عقله، ولا يُحكم ضميره، فالطفل الذي يموت من فريق أؤمن به أو أشايعه يستحق أن ترصف الأرض له بالدموع. أما الطفل الذي يموت/ أو الأطفال الذين يقضون نحبهم من فريق أبغضه فلا يستحقون شيئا إلا رصاصة لعنة في الهواء تطلق على من أبغضه لأنه عادى من أحب "فأجبره" على خيارات مثل هذه!
من فقأ عين هذا.. ومن فقأ عيناه.. وماذا فعل هذا ليستحق العمى؟ أسئلة لا جواب لها دوما في عالمنا المزيف، ولكن أضعف الإيمان هي أن يكون المستمع منا عاقلا ومنصفا، فلا يبني حوائط من أحكام على ضحايا؛ لأنه لم يسمع شكواهم كما يجب.