في فلك الجامعة

مقالات رأي و تحليلات الاثنين ٠٥/نوفمبر/٢٠١٨ ٠٤:٠٩ ص
في فلك الجامعة

سمعان كرم

قال عالم الفلك الإغريقي بطليموس: «عندما أسرح في تأمل النجوم في تحركاتها الدائرية، أشعر وكأن قدمي لم تعُد تلامس الأرض». هذا هو الشعور الذي انتابني حينما دخلتُ إلى معرض ’كويكب‘ للفضاء في جامعة السلطان قابوس، فقد أقام طلاب وطالبات من كلية الفيزياء التابعة لجماعة الأنشطة الطلابية بكلية العلوم في الجامعة، معرضاً تصويرياً بتوجيه من رئيس الجمعية د.صالح بن سعيد بن حمد الشيذاني، ومشاركة من صاحب السمو السيد د.فارس بن تركي بن محمود آل سعيد. الذي قدم أعمالاً مميزة من لقطات فلكية نادرة ولوحات ساحرة ومعرفة قادرة. على مدى ساعتين من الزمن وقفنا أمام الصور المعروضة، وكانت لكل منها حكاية ترفعك إلى الفضاء انطلاقاً من قواعد اختارها المصَور كمنصات لعمله.

ابتدأت الدهشة عند قراءة الاسم الذي اختير للمعرض، وهو كلمة ’ كويكب‘، ظننت أولاً أنه تصغير لكلمة كوكب، لكن قيل لي إنها اسمٌ يطلق على منطقة تقع على جبال الحجر المطلة على وادي طيوي ووادي شاب في الشرقية. تنتشر على تلك المنطقة مدافن دائرية لا تزال قائمة منذ أيام حضارة أم النار. هذا ما أكدَه لي فعلاً بعض أصحابي من أهل قرية ميبام التي تعتلي وادي طيوي. والذين زاروا تلك المقابر يدركون أنها قد تكون من المواقع الممتازة لمشاهدة النجوم والمجرّات والأجسام الفضائية؛ نظراً لارتفاعها وبعدها عن الأضواء الاصطناعية ليلاً وهدوء وصفو جوها من التلوث. بالمقاربة كان الصينيون الأقدمون يبنون الأبراج العالية لمتابعة الأجسام السماوية في تحركاتها. أما نحن فنشاهدها من ‘كويكب’!

الذي فخرنا به خلال الزيارة وبعدها هو مدى تعمق الجامعيين والجامعيات بالمعرفة العلمية البحتة انطلاقاً من الذرة وخصائصها وصولاً إلى المجرات وضخامتها وربط المعلومات ببعضها البعض لتكَون معرفة شاملة لهذا الكون الموَحد. نحن الذين تعودنا على مقاسات ومسافات وأرقام تناسب حياتنا على هذه الأرض، من مترٍ وساعةٍ زمنية ومليون من الأرقام وطنٍ من الأوزان وجالونٍ من السعة ووحدة لقياس سرعة الصوت (MACH) وحتى السنة الضوئية التي تمثل المسافة التي يقطعها النور في سنة واحدة الذي يتحرك بسرعة ثلاثمئة ألف كيلومتر بالثانية، نقف مندهشين أمام أرقام الفضاء عندما نعلم أن النجم الواحد من بلايين النجوم يستهلك البلايين من أطنان المادة يحولها إلى طاقة وحرارة ونور حسب معادلة اينشتاين (Einstein)، أو عندما يُقال لنا إن عمر الكون هذا يقدر بحوالي أربعة عشر بليوناً من السنين التي نعرفها.
ومن ثم نندهش أمام شغف المشتركين بهوايتهم تلك. فهم يقطعون المسافات وينامون في الخلاء منتظرين لساعات ابتعاد غيمة عن رؤيتهم لأخذ صورة أو صور لجسم متحركٍ في الفلك. وإن لم تنجح المحاولة، يعاودون الكرّة مراراً إلى أن يلتقطوا الصورة التي يريدون. ويتكلمون بشغف عن أدواتهم لاصطياد المشاهد الفريدة سواء بالعين المجردة أو بالكاميرات الحديثة غالية الثمن، ويحلم كل منهم بالحصول على آخر ما توصلت إليه التكنولوجيا في هذا المجال من أجل التعمق في المجهول وتحسين جودة صورهم.
والجميل في هذا المعرض هو أن بعضهم تخطى المجال العلمي للصورة وأدخل عليها عناصر جديدة وليدة مخيلته وموهبته الفنية جعلت منها لوحة رائعة تشكيلاً وألواناً. مرةً يتتبع النجوم في رحلاتها خلال الليل فيأخذ لها المئات من الصور تباعاً ودون توقف، فترتسم على اللوحة دوائر صُنعت من شلالات نورٍ، ومرةً يضع شجرة سمرٍ أو شجرة عتمٍ تعرّت ولم تلبس ثياب نومها وهي تعلو فوق التلال في مقدمة صورةٍ خلفها مجرات وتشكيلات رائعة من النجوم. إن هذا التداخل الفني على صورة واقعية يعبّر عن تفاعل الإنسان الوضيع مع هذا الكون الجميل في محاولةٍ لإيجاد صداقة حقيقية بين وجود الإنسان على الأرض وهذا الكون العظيم. بين لوحة وأخرى يستمر الزائر في رحلة أطول بكثير من بضع الخطوات التي قام بها مستمتعاً بالعلم والفن معاً.
ومما يأخذه الزائر معه عندما يخرج من المعرض هو الترَفع عن المادة وتنوعها وأنظمتها ومقدارها للوصول إلى خالقها وعظمته وجبروته. تجربة المعرض هذا تجعلك تتأمل في مسألة وجودنا في هذا الكون. لا تعلو فقط أرجلنا عن الأرض كما شعر بطليموس الإغريقي بل أيضاً ترتفع نفوسنا وعقولنا وقلوبنا نحو خالقنا الجبار.
ومما يأخذه الزائر أيضاً هو أن الجامعة تذخر بالطاقات والمعرفة والعلم والابتكار وهي كما الفضاء لا حدود لدورها. ويا ليتها تكون كما الفلك المفتوح للجميع، هي أيضاً مفتوحة للجميع.