قوة الاقتصاد الأمريكي

مقالات رأي و تحليلات الاثنين ٢٩/أكتوبر/٢٠١٨ ٠٣:٣١ ص
قوة الاقتصاد الأمريكي

مايكل جيه. بوسكين
ينسب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لنفسه الفضل في اقتصاد يصفه بأنه «الأقوى على الإطلاق»، وقد دأب على مقارنة الظروف الاقتصادية الحالية بالتعافي الضعيف تاريخيا إبان حكم الرئيس باراك أوباما. فمع نسبة نمو جاوزت 3 % هذا العام، ونسبة باحثين عن عمل لم تتعد 3.7 %، وتزايد الشواغر والفرص الوظيفية بدرجة فاقت أعداد الباحثين عن عمل، تحسن الاقتصاد كثيرا خلال عهد ترامب. كما تعد مؤشرات الاقتصاد الكلي الأفضل خلال عقود.

في الوقت ذاته، نجد أوباما أيضا ينسب لنفسه الفضل في قوة الاقتصاد، قائلا إن سياساته حالت دون حدوث انكماش أسوأ في أعقاب الأزمة المالية العام 2008. لكن أيا من مبالغة ترامب أو ذاكرة أوباما الانتقائية ليس أمراً مفاجئاً.

وكما هي الحال مع نجوم الرياضات الجماعية، جرت العادة أن ينال رؤساء أمريكا الكثير من الإطراء والكثير من اللوم أيضاً من جانب الناخبين والمؤرخين لما يحدث خلال فترات حكمهم. تتطلب معظم السياسات الرئاسية إقراراً من الكونجرس، الذي غالبا ما يعدلها أو يرفض تمريرها. كما أن هناك عوامل أخرى كثيرة تؤثر بشكل دائم على العملية الاقتصادية، لا سيما السياسة النقدية لمجلس الاحتياطي الفدرالي. وحتى الآن، تعد سياسات هذا المجلس، في ظل عهد رئيسه الجديد جيروم باول، صحيحة ودقيقة، غير أن هذا لم يمنع ترامب من الشكوى علنا من تزايد أسعار الفائدة بوتيرة متسارعة. ورغم غرابة مثل هذا التصرف، تتضاءل شكوى ترامب مقارنة بالتوبيخ الذي وجهه الرئيس جيمي كارتر لمجلس الاحتياطي الفدرالي في خطاب متلفز شاهدته الأمة، حينما نصح المجلس بخفض أسعار الفائدة في خضم التضخم المستعر الذي ساد في أواخر سبعينيات القرن الفائت.
من الأمور الأخرى التي لا تقل أهمية وتأثيرا: الأحداث الاقتصادية والسياسية في بقية أنحاء العالم، وكذلك القوى التكنولوجية والديموغرافية في الداخل والخارج، إضافة لسياسات الإدارات السابقة، التي يمكن أن توسع أو تقيد خيارات الرئيس الموجود في السلطة. فعلى سبيل المثال، ورث الرئيس رونالد ريجان من سلفه كارتر تضخما فاق تسعة بالمئة، كما ورث الرئيس جورج اتش دبليو بوش (الأب) أزمة ديون أمريكا اللاتينية، وكارثة مدخرات وقروض كانت تختمر لأكثر من عقد من الزمن. ويُحسَب لريجان وبوش أنهما أبصرا المشكلات الماثلة أمامهما ودعما الاستجابات الناجحة، رغم الثمن والتكلفة السياسية للانكماش الذي أعقب كل واقعة.
أما الرئيس بل كلينتون فقد ورث تضخما منخفضا ونظاما ماليا منتعشا. وبعد أن استحوذ الجمهوريون على مجلسي الكونجرس في انتخابات التجديد النصفي لعام 1994، تعاون كلينتون معهم لتحقيق انضباط الميزانية وإصلاح نظام الرعاية الاجتماعية. ثم جاء الرئيس جورج دبليو بوش، الذي ورث إرثا من الإنفاق غير الكافي على الدفاع القومي، لتتزامن بداية عهده مع هجمات الحادي عشر من سبتمبر، التي كشفت عن الحاجة لإعادة بناء الجيش وتحسين الأمن داخل الولايات المتحدة. وجاء أوباما أخيرا ليرث الأزمة المالية وما تلاها من حالة الركود الكبير. لكن فترة رئاسته شهدت بعد ذلك أضعف تعاف اقتصادي منذ الحرب العالمية الثانية، وهو الأمر الذي يرجع جزئيا إلى محاولاته لإعادة تشكيل قطاعات واسعة من الاقتصاد.
بيد أن هذه الأمثلة الأمريكية تعد أكثر وداعة وأقل حدة إذا ما قورنت بأمثلة أخرى في التاريخ الحديث. ففي وسط وشرق أوروبا مثلا، اضطر الإصلاحيون في حقبة ما بعد الحرب الباردة إلى إدارة الانتقال من نظام اشتراكي بال يقوم على التخطيط المركزي إلى اقتصاد السوق الحرة. وسيرث من سيخلف الرئيس (الفنزويلي) نيكولاس مادورو في النهاية الكارثة الاقتصادية والاجتماعية المكتملة الأبعاد المسماة بالشافيزية.
بالعودة إلى العام 2018، نجد أن استبدال إدارة ترامب للوائح والنظم المعمول بها خلال عهد أوباما، وسن قانون إصلاح ضرائب الشركات ساعدا في تعزيز النمو. غير أن سياسة ترامب التجارية محفوفة بالمخاطر. فإذا أثبتت نجاحها في فتح السوق الصينية والحد من عمليات نقل التكنولوجيا من الشركات الأمريكية، فستكون تلك السياسة حينئذ بناءة وناجحة. لكن إذا عجلت بحرب تجارية طويلة الأمد، فقد تتسبب في ضرر بالغ.
غالبا ما يشط ترامب بالمبالغات الرئاسية إلى مستويات لم يصلها أحد من قبل، خاصة عندما يستخدم لازمته الشهيرة «لم ير أحد قط شيئا كهذا». لكن هذا لا يعني أن الرؤساء السابقين نأوا بأنفسهم عن مثل هذا المبالغات، ومن ذلك حديث أوباما المتكرر عن «مشروعات البنية الأساسية الجاهزة الممولة من الحكومة الفدرالية» للاستعانة بها في تمرير مشروع قانون تحفيز الاقتصاد الذي تقدم به في فبراير 2009، ليعترف أوباما بعدها بأنه «لا وجود لمثل هذه المشروعات». كما حصل تعهده بأن يضمن برنامج أوباما كير للرعاية الصحية استمرارية خطط الرعاية الصحية وخدمات الأطباء للمرضى على تقييم كذبة كبيرة، وهو أسوأ تقييم من موقع تقصي الحقائق «فاكت تشيكر» التابع لصحيفة واشنطن بوست. كما ادعى أوباما أنه لم يكن بمقدور أحد أن يعلم مسبقا مدى سوء الركود العظيم، لكني أوضحت عقب انتخابه مباشرة أن «هذا الركود هو الواقع الفعلي، وأنه أسوأ بكثير من فترتي الركود القصيرتين الأقل حدة في ربع القرن الأخير». وقد أعرب أوباما في وقت لاحق عن ندمه لعدم كشفه في وقت أسبق عن التطورات السيئة المتوقعة للركود، وأنه لو فعل ذلك، فربما كان ليتمكن من توسيع نطاق مشروع قانون تحفيز الاقتصاد. لكن إذا لم يكن بوسع أحد أن يعلم مسبقا بمدى سوء الركود، فكيف كان لأي شخص أن يحذر منه في وقت أسبق؟
يبدو أن أوباما وجد الراحة في نسيان حقيقة مفادها أن ميزانيات فترة حكمه الأولى اعتادت بشكل متكرر على وضع تقديرات للنمو تتجاوز 4 % للأعوام القليلة التالية، لكن هذه النسبة كانت ضعف ما أمكن تحقيقه بالفعل. ومن الواضح أن مستشاريه إما أنهم كانوا يفتقرون إلى القراءة الدقيقة للاقتصاد، أو أنهم كانوا متفائلين لدرجة الجموح بشأن كفاءة سياساته. ومنذ ذلك الحين، لجأوا إلى إحدى نظريات «الركود المزمن» الفاقدة للمصداقية لتبرير التعافي الفاتر.
نتيجة لذلك، عندما تولى ترامب السلطة، ورث دينا قوميا كان قد تضاعف خلال عهد أوباما، الأمر الذي أدى إلى رفع أسعار الفائدة وتكاليف برامج الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية غير الممولة بوتيرة متسارعة. في ظل ظروف كهذه، يتوقع أن تصطدم أكبر وأجرأ السياسات المقترحة لترامب بقيود الميزانية. وقد استبعد ترامب بالفعل إجراء أي تغييرات في برامج الضمان الاجتماعي. ولم تفلح محاولاته ومحاولات الجمهوريين في الكونجرس لاستبدال قانون الرعاية الصحية الميسرة (أوباما كير)، أو كبح نمو نفقات برنامج التأمين الصحي لذوي الدخل المحدود (ميديكيد). كما أن أي زيادة مؤقتة في نفقات الدفاع سوف ترتد مرة أخرى إلى مستويات غير كافية بعد هذا العام المالي.
ورغم تركيز حزمة الضرائب، التي تحولت لقانون بعد توقيعها من قبل ترامب في ديسمبر الماضي، على تخفيضات الضرائب في البداية، ومساعدتها الآن في نمو الاقتصاد، لم تستجب الإيرادات الحكومية كثيرا لهذا النمو. ومن المؤسف أن عجز الميزانية المتنامي يعني صعوبة تحويل تخفيضات الضرائب الشخصية التي يتيحها التشريع إلى ممارسة مستديمة في أي وقت قريب. وفي حال حدوث انكماش، سيكون الناخبون أسرع إلى إلقاء اللوم على ترامب من إرجاعهم الفضل إليه في الازدهار الحالي. ونظرا لكل هذه الجهود المستميتة التي يبذلها الرئيس بغية إلصاق اسمه بالاقتصاد الحالي، فلن يكون من السهل عليه التحول إلى إلقاء اللوم على مجلس الاحتياطي الفدرالي، أو الديمقراطيين، أو أي شخص آخر.

أستاذ الاقتصاد في جامعة ستانفورد،

وزميل رفيع المستوى في مؤسسة هوفر